"ليس للشعراء من سيرة، فقصائدهم هي سيرهم الذاتية"، ذلك ما يؤكده اسكندر حبش في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان (هجرتان وأوطان كثيرة)، فما بالك بشاعرٍ يعتبرُ أن الكتابة ليست بديلاً من الحياة، وإنما هي حياةٌ أخرى مُتكاملة، وكيف إذا كان هذا الشاعر يكتب بقلمٍ متعدد الشواغل والأجناس الإبداعية.

هو اسكندر حبش: الشاعر، الصحفي، المترجم، الباحث، الفنان التشكيلي، وليس آخرها مُدرّس الفلسفة في الجامعات والمدارس لأكثر من أربعين سنة. هو اسكندر حبش القادم من هجرتين، ومن ثمّ المولود من أوطان مُتعددة: فلسطين، أرمينيا، سورية، ولبنان.

وهكذا أيضاً سيمتدُّ الحوار الصحفي الذي أجرته معه الشاعرة والصحفية دارين حوماني، ليصيرَ سيرة حياة كاملة على مدى كامل كتاب (هجرتان وأوطان كثيرة)، خوّضا الاثنان (الشاعر والصحفية) في حيوات هذا الشاعر المفعم بالهميّن الوطني والقومي وكذلك بالهمِّ الإنساني عموماً، وبهمِّ الكتابة أولاً وأخيراً. والذي دوّن كلَّ تلك الهموم كتابة تنوعت بين عددٍ من الأنواع الإبداعية، ألم يُردد في أكثر من مفصل من تفاصيل هذا الكتاب:"نحن لا نكتب سوى ذواتنا"، وكلُّ كتابةٍ هي الـ"أنا"، حتى وإن كانت مُغلفة بفضاءات أخرى، بل وربما نحن نكتب لنكتشف أنفسنا، نتحدّث عن مشاعرنا وعواطفنا. نحن نكتب أنفسنا قبل أن نكتب أيَّ شيءٍ آخر. بل ويرى أيضاً إنه حتى في الترجمة؛ فكلُّ واحدٍ منّا يبحث فيها عن ذاته وعن وطنه.

تتعدد كثيراً أبواب هذا الكتاب - الحوار المُطوّل مع اسكندر حبش، وإن كان ثمة محاولة لتبويبه بـ:"اسكندر حبش.. الكتابة بديلاً من الحياة، اسكندر حبش.. العائلة الوطن البدايات، جريدة السفير، الكتابة.. الشعر، الترجمة، والفن التشكيلي.."، وعن سرِّ هذا التعدد في تنويعات الكتابة، وعدم استقراره، أو "إخلاصه" لإبداعٍ واحد يكشف: سأقول بدايةً إنني "حرفي كلمات"، أعمل بها وعليها. وأن أقول إنني شاعرٌ فقط، قد يُحيل ذلك إلى وقعٍ كلاسيكي، ومن ثمّ ستحيلنا هذه الكلمة إلى كلّ ما تحمله من سياقٍ ثقافي واجتماعي، أي لن تُحدد بتاتاً كلّ ما أكتبه، حيث بالإضافة إلى الشعر هناك المقالات الصحفية، الترجمة، النقد، والتدريس. وكلها وجوهٌ لا أستعمل فيها غيرَ الكلمات، وبما تتطلبه من أشكالٍ مختلفة في التعبير. ثمّ إنّ الكتابة هي أن تدخل في وحدة تُهدّدك فيها الدهشة، وأن تهب نفسك لمجازفة غياب الزمن، حيث يسود هناك العود الأبدي. إنّ الكتابة كينونة أيضاً ولها علاقة مع هذا اللانهائي، ومن ثمّ فإنّ كلّ سؤال عن موت الكتابة يصبحُ لاغياً، لأنّ الموت هنا "لا يبدو فناءً"، بل هو سؤال ضروري كي تحدث هذه العلاقة مع اللانهائي، أو الزمن حسب (ليفيناس) وبتقدير حبش؛ إنّ وحدة الكتابة لا تعني مُطلقاً أن تكون وحيداً، فحين تكتب، فأنتَ لست وحيداً، ذلك لأنّ الكلمات مأهولة بأشياء كثيرة: أشخاص، مدن، حروب، فقط لا تدعها تصرخ، وإنما غلفها بالصمت.

ولأنّ أكثر ما يشغل اسكندر حبش في هذه الحياة هي الكتابة، وكأنه عاش ليكتب، سنتوسع أكثر في هذا الباب، فهو يذكر: قد تكون الكتابة، هي الانتقال من الـ (أنا) إلى الـ (هو)، لكن عليك أن تُبقي ما يحدث لك – حين تكتب- معك، لا أن تجعله يحدث مع أي شخص آخر، وكلُّ ما يهب الحياة لعبارتك، سوف تشاهده، وهو يموت في الكلمة التي تكتبها. الكلمة إذاً، هي حياة، هي الحياة التي تحملُ الموت، وتنتصب في داخلها.

ورغم تنويعه في مختلف أنواع الكتابة الإبداعية، غير أنّ اسكندر حبش يتنصر للشعر دون غيره من أنواع الكتابة، أو لنقل أكثر من غيره، رغم أنه يُعتبر من الشعراء المقلين في الإصدارات الشعرية. وأما في أسباب انتصار حبش للشعر؛ فيذكر عند سؤاله عن نيته في الذهاب صوب كتابة الرواية: لا يعنيني هذا الأمر بتاتاً. ترجمت روايات لأنها تُشكّل جزءاً من التراث الإنساني والأدبي. أما أن أكتب أنا نفسي رواية، فهذا ما لا أشعر بأي رغبةٍ تجاهه، هذا أولاً، وثانياً لم عليّ أن أكتب رواية؟ ليقرأني أناسٌ أكثر؟ أمر لا معنى له بالنسبة إليّ، أو أن أفوز بجائزةٍ أدبية؟ هذا أمر أتفه من الأول. كلّ هذا يقودني إلى تفصيلٍ صغير، لدي عدد جداً من القراء، الذين يُفتحون أمامي آفاقاً أرحب، ويختم بـ: الشعر هو الفن الأكبر، هو اللغة الأولى والأخيرة، أما الرواية، فهي مُجرد تفصيل صغير لا يعنيني التوقف عنده في الكتابة.

وبتقديره لا يمكن للعبارة الإنسانية أن تموت، والشعر هو من يحمل – أكثر من غيره – هذه العبارة، فلا يموت الشعر إلا إذا اختفى الإنسان عن هذا الكوكب، وحتى كوكبنا هذا هو قصيدة بامتياز. وأما ما يُقال إن الشعر يشهد تراجعاً؟! فيؤكد: أبداً، ولا مرة كان الشعر طليقاً وحُرّاً إلى هذه الدرجة. نحن نكتب القصيدة من أجل الشعر نفسه، لا من أجل أي شيءٍ آخر، وهذا ما يُخلصه من براثن كثيرة قد يقعُ فيها. الشعر أخيراً هو الحرية، ولا يُمكن للحرية أن تموت.

----

الكتاب: اسكندر حبش.. هجرتان وأوطان كثيرة

الكاتب: دارين حوماني

الناشر: دار دلمون الجديدة