كحملٍ كاذب - ربما- يداهمنا الحنين، على حين موقفٍ، ويبقى هكذا يتحرّش بنا لا نستطيع منه فكاكاً، لا سيما إذا كان الماضي الذي يأتي منه مثقلاً بخزان من الأحداث والأحلام. ربما تحقق بعضها بطريقة ما، وبعضها الآخر، تحوّل إلى كوابيس، وقد تجاوز العمر الذاكرة والحفظ، وعندما أردنا أن نُسلط الضوء على ما يخفيه خزّان الذاكرة هذا، فلا نرى غير العماء.

على هذه التيمة تقوم رواية الكاتبة سوسن حسن "حرير الظلام"، فهي منذ البداية ستختارُ بنيةً روائية لا يتعدد فيها الرواة، وإنما سينهض السرد على لسان راوٍ واحد، لكنه الراوي الملتبس، عندما يتداخل القناع مع الوجه، فالتعدد في شخصيات الرواية، كان أقرب إلى الصوت الواحد، أو الصوت الممزق في أكثر من شخصية، ومن هنا هو التعدد المخادع، أو المزيف، في لعبةٍ روائية أقرب إلى المسرح داخل المسرح، أو الرواية داخل الرواية، ذلك أن الكاتبة تريدُ أنْ تكتبَ مقطعاً من الحياة تارةً، وطوراً تُريد أنْ تكتبَ عن منظرٍ أو مشهدٍ يبدو لها متكاملاً. ومن هنا ستأتي الرواية، مرةً هي من تكتب صاحبتها، وحيناً تصنع هي الراوية، تماماً كما تُصنع التماثيل من الطين، ليكون الصراع، بيننا وبين ما نصنعه، معيدةً إلى الأذهان فيلم (النافذة الخلفية) وهو من بطولة الممثل جوني ديب، إلى الأذهان، في صراع الكاتب مع شخصياته عندما لا يعود بإمكانه السيطرة عليها، ويزيد الأمر التباساً، عندما تجعل من (نبيل) شخصية الأعمى في الرواية المعادل (لسوزان) الساردة، اللذين عاشا عمراً بحرير الظلام كلٌّ على طريقته، أو كلٌّ كما أراد له الآخر أنْ يعيش، بعد عملية تبادل الكتابة لكليهما، وعند مفترق العمر، أو عند مفترقٍ ما من العمر، ثمة محاكمة عقلانية، ستزيحُ الغشاوة عن العين، والبصر، لكن لتضعها على عين القلب، وبدل الإبصار يكون العماء التّام للبصر والبصيرة. الأول عندما يفتح عينيه فيضيّع كلَّ ما خزنّه، والثانية عندما تفتح خزان ذاكرتها، وإذ به لا يلوي على مشهد، ومع ذلك ليس الالتباس هنا بمعنى التشويش، بل الالتباس الروائي المبدع، والمقصود كسرد، هل تريد أن تقول: البائس هو من يعيش على الذاكرة والذكرى وحسب؟

حتى منتصف الرواية، ستظلُّ الراوية (سوزان حلمي) تمسكُ بالشخصيات، بما يشبه مسك خيوط الدمى، تحركهم على خشبة مسرح صفحاتها، ترسمهم، وتشكّلُ لهم مصائرهم، بالكثير من تسارع الأحداث، وعندما تكادُ أنْ تصل إلى الخواتيم، تنقلب عليها الشخصيات، ليعيدوا هم تشكيل حياتها، وحكايتها، في صراع محموم لإدراك النهايات، التي تظلُّ قصيّةً عن التحقيق، ولتظل الشخصيات بمجملها معلقةً في الفراغ، وكأننا لا نسمع غير صوت شخصية مونودرامية، متفردة وأحادية على خشبة مسرح الرواية. فقد تماهت الساردة مع الشخصيات المسرودة، توزّع نفسها عليهم، حتى كادت ألا تتعرف على وجهها في المرآة. تضمحلُّ فيهم وتغرقُ في تفاصيلهم، وقد استنفدت تفاصيل نفسها، وتفاصيل من كانوا حولها. في المنعطف الثاني، سيتجه الإيقاع ليصير بطيئاً، وكأننا أمام "ستوب كادر" مملٍ وطويل، تتداخل الأزمنة والشخصيات والأمكنة، وكأن عطلاً أصاب المشهد فمنعه عن الحركة، عيبٌ ما أصاب حالة الولادة، فلم يأتِ المخاض بشيء. هكذا نقفُ دائماً قاب قوسين من السعادة والفرح، خطوة واحدة نحتاجها لنصل، لكنها أبداً تظل كالغصة، تأتي الأشعة لتبدد عتمة النفوس بعد فوات الأوان، أو على أحسن تقدير، بعد أن يكون الأغلبية، قد أدمن عادة الوقوف على أعتاب الذاكرة، وربما يأتي بطء الإيقاع هنا ليوحي بهذه الحالة، وتؤكدها حياة نحن المحكومون بالتعاقد معها، أو على التهادن معها لبعض الوقت، على الشكل الذي نحاول الاقتراب من سلوك تفاصيلها اليومية. وبهذا "الظلام" الذي نخفف من "الدامس" فيه بشيءٍ من حرير أرواحنا، وبدل أنْ تمدنا الذاكرةُ بنسغ الحياة، فإذا بالمرارة في طياتها تجعلها تنسلُّ من بين أصابعنا كما الضياء.

إذاً، توهمنا سوسن حسن في البداية أن الرواية ضاجّة بالشخصيات، والأحداث والأمكنة، ثم لنكتشف صوت "الأنا" المتشظية في "أنات أو أنواتٍ" كثيرة، المعطوبة بالوقوف على مفترق الذكريات، تخاف من الحياة، وهي تتوق وتتحرق رغبةً بها، شخصيات مع ذلك تدخلهم فجأة ناضجين، كيف قبضت عليهم، وأتت بهم متلبسين إلى روايتها، ثم تصفهم بصفحاتٍ طويلة وبدقةٍ كمن يرسم أو يُسجّل بكاميرا، وبعدها تثبتّهم لبعض الوقت، لتعود "فلاش باك" للزمن والحياة التي أوصلتهم لهذه الحالة. تأتي بالصفحات كتدفق شلالات الذاكرة على حين مباغتة، تتسارع بتقطيع المشاهد بما يُشبه السيناريو، توقفها عند "حبكة" ما، لتعيد تتالي الحبكات، ولتختم عند ذات ضياعٍ، أو ذات التباس المغرمة بتجسيده.

----

الكتاب: حرير الظلام

الكاتب: سوسن حسن

الناشر: دار الحوار