"احذروا من يديرون ظهورهم إلى الحب، وإلى الطموح، وإلى المجتمع؛ فإنهم سينتقمون لأنهم تخلوا عنها". على مثل هذه الوثبات التي تأتي كقفزات كنغرٍ أسترالي، يُقدم أ.م.سيورن معاييره في قياس المرارة، أو كما أطلق على كتابه "القياسات المنطقية للمرارة".

نصوص هذا الكتاب التي تُحيّر المرء، أو المتلقي في تصنيفها، تلك النصوص التي كثيراً ما تأخذ شكل الومضة الشديدة التكثيف، والتي حيناً تأتي ومضة شعرية، أو قصة قصيرة جداً، أو تأملات في الحياة، وأحياناً خُلاصات إنسانية، أو قد تكون موقف تجاه قضية إنسانية ما، بل وتشتبك مع الهايكو في الكثير من المعايير والملامح، ويُمكن للمتلقي أن يجد في النص الواحد كل ما سبق من تصنيفات. هذا من حيث النوع أو إمكانية تحديد الجنس الإبداعي.

"السعادة نادرة جداً،

لأننا لا نبلغها إلا في الشيخوخة، وفي الهرم.

فضلٌ يختصُّ به عددٌ قليل من البشر".

لكن من حيث الدفق العاطفي لهذه المنثورات على البياض، فلا تقلّ هي الأخرى تنويعاً بالمشاعر، أو تنوّع الأحاسيس التي يشعرُ بها القارئ، فطوراً تأتي الومضة بمنتهى الحكمة، وحيناً تكون بمنتهى النزق، وفي حالاتٍ كثيرة تظهر مُفعمة بالتهكم، وتالياً تُقدم موقفاً من الحياة.

هي نصوص تكره التصنيف إذاً، نصوص تعيش بحرية تماماً كغزلان السفوح، تُشبه حياة أ.م.سيوران ذاته، الكائن الذي عجز أن يجد لنفسه جنسية مُحددة، أو أن يكتفي بمواطنية دولة بذاتها، فهو المولود في 8 نيسان 1911 في رازيناري – رومانيا، والمتوفي في 20 حزيران 1995 في باريس- فرنسا، وكان طول الوقت متجولاً في مختلف الدول الأوروبية. هذا الكائن الذي قضى سنوات عمره في الشك؛ كان ابناً لكاهن أورثوذكسي، انتسب في سن السابعة عشرة إلى كلية الفلسفة في جامعة بوخارست، ونال الشهادة فيها عن أطروحته حول برغسون؛ وفي بوخارست ظهر له أول كتبه سنة 1937، وعنوانه "ذرا اليأس" الذي يحوي - حسب اعترافه - بذرة كل ما كتبه فيما بعد سواء باللغة الرومانية، أو باللغة الفرنسية.

"إن الحضارة التي تبدأ في الكاتدرائيات؛

ستنتهي بغموض الشيزوفرنيا".

في تلك الفترة، ينفصل سيوران عن البرغسونية، فقد رأى أنها مُذنبة لتجاهلها البعد المأساوي للحياة، ونشر سنة 1937 "دموع وقديسون". وقد لقي هذا الكتاب مُعارضة دينية هائلة، قبل أن تصدر له دار غاليمار الفرنسية كتابه "مُختصر التفكك"، وفي كتاب "القياسات المنطقية للمرارة" الذي بين أيدينا، فإنّ سيوران يهجو كلَّ ما قام بدراسته أو عايشه، حيث الكثير من ومضاته في هذا الكتاب يسخر حدّ التهكم من الفلاسفة ورجال الدين ومختلف الميتافيزيقيين. وهو الذي يرى أنّ تاريخ الأفكار هو تاريخ المنعزلين.

"العقل؛ هو أكبر مُستفيد من هزائم الجسد.

إنه يغتني على حسابه، ويُدمره، ويعيش من حياة العصابات.

الحضارةُ مدينةٌ في منجزاتها لرجل عصابة".

تتخذ "القياسات المنطقية للمرارة" مظهراً موجزاً لديوان أفكار، طوراً رصينة، وطوراً ساخرة. ومع ذلك فإنه لا تبعثر في هذا الكتاب، فمنذ الفقرة الأولى وحتى الأخيرة يترسخُّ الهاجس نفسه: هاجس أن يُحافظ من خلال الشك على الميزة المُضاعفة للقلق والابتسامة.

"الموهبة هي الوسيلة الأكثر ضماناً

لتزوير كلّ شيء، ولتشويه الأشياء،

ولخداع النفس.

الوجود الحقيقي؛

يعود إلى الذين لم تثقلهم الطبيعة بأية موهبة.

كذلك إنّ من المُتعب تخيّل عالمٍ أكثر زيفاً من العالم الأدبي،

أو رجلٍ مُجردٍ من الواقع،

أكثر من رجل الأدب".

بقي أن نُشير، إلى أن أ.م.سيوران كان قد وزع تلك "المأثورات" من القول العالي إلى أبواب، كل باب يفتح على مجموعةٍ من القضايا المتماثلة، أو المواقف المُتقاربة، منها: ضمور الكلام، نصّاب الهاوية، زمنٌ وفقرُ دم، غرب، نقد العزلة، دين، حيوية الحب، عن الموسيقى، دوار التاريخ، وأخيراً في منابع الفراغ.

----

الكتاب: القياسات المنطقية للمرارة

الكاتب: أ.م. سيوران

ترجمة: عدنان محمد

الناشر: دار دال، اللاذقية