إنّ حركة إنسان في الشارع، كيفما تكون هذه الحركة – مُضطرباً أو مُسرعاً- تتضمن معنى درامياً، لأنّ المُتفرج لا يُشاهد الحالة لهذا الشخص فقط، وإنما يُشاهد في الوقت نفسه المكان الذي يتحرك ضمنه. هذا ما يُعطي فرقاً بين اللقطة في الفيلم السنمائي، واللقطة ذاتها في إبداع آخر كالمسرح والرواية.

يترصد فرايليش السينمائي الروسي سيمون فرايليش الدراما السينمائية في عشرات الأفلام الروسية، ليجد فيها كل أنواع الدراما المتوفرة في مختلف أنواع الإبداع، ذلك لأنّ الفيلم السينمائي يستمدُّ عناصره من كلِّ الفنون الأخرى، حيث يستمدّ من الرسم عناصر التأثير البصري للصورة، ويستمد من الموسيقا إحساس الانسجام والإيقاع في عالم الصوت، ومن الأدب يستمدُّ إمكانية التعامل مع المواضيع الحياتية المُختلفة، كما يستمد من المسرح فن الممثلين. كلُّ هذا بطرقٍ إبداعية تُضفي على مكنوناتها الكثير. لذا فالسينما هي الفن الذي يربط الفنون بعُرى دقيقة. غير أن هذا المفهوم لا يعني بأنّ الفيلم هو فن عام إطلاقاً؛ بل هو فن له خصوصياته كما لباقي الفنون خصوصياتها في التعبير والتقديم. الفيلم من هنا؛ يقفُ قريباً من المسرح والرسم والأدب، وذلك بما أوتي من صفات مختلفة، وهو بطبيعته ليس مسرحاً ولا أداًب، وإنما هو الفن الذي يشتمل على كلِّ هذه الفنون، تاركاً الفوارق بينها كما هي، حيث لا يُمكن لأي واحد منها أنْ يحلَّ محل الفيلم، لأنّ الفيلم هو الذي يوجد عناصر الفنون كلها. ما يصلُ إليه فرايليش، هو أنّ الفيلم فن يتعامل مع كلِّ العناصر في الفنون الأخرى من دون أن يكون فناً عاماً. ببساطة لأنه ومع ظهور الفن السينمائي (الفيلم) لم يتخلّ أي من تلك الفنون عن مزاياه، بل على العكس تماماً فقد باتت تلك المزايا ملموسة أكثر من ذي قبل.

ولتبيان ماهية الدراما في الفيلم السينمائي، لا يملُّ سيمون فرايليش مقارنتها بأنواع الدراما في الفنون الأخرى، ومن ثم ليستنج المُتلقي من هذه الدراسة المقارنة الماهية الحقيقية لدراما السينما، ومن ثمّ مُطبقاً ما وصل إليه بشاهدٍ درامي سينمائي، وهو غالباً من فيلم روسي له صيته الذائع، ومن مختلف أزمنة النتاج السينمائي الروسي ومراحله. فهو يذكر على سبيل المثال إنّه يصلُ إلينا مضمون الرواية من خلال الأسلوب القصصي للمؤلف، فالوصف الدقيق لتصرفات الأشخاص والتعليق المُفضل عليها، وكذلك الذكريات الماضية، وما يعلق بها في خاطر أبطال الرواية وما يسرح في أذهانهم، كل هذا ينصهر بالأسلوب القصصي في وحدة تصويرية، ولكي يُمكّن لهذه المضامين مجتمعةً الممثل من تقمصها يجب على الموضوع أن يتضمن صبغة درامية لأنّ التمثيل السينمائي يعكس الحياة اليومية أمام أعيننا كما تعكسها المرآة، وطبيعي أنه بالإمكان التنويه إلى ما نريد دون الحاجة للتطرق مباشرة إليه، وذلك عن طريق السرد، وحتماً في الفيلم يُمكن السرد أيضاً في بعض المقاطع حيث تُقدم بأسلوبٍ مرنٍ مقبول.

إنّ الموضوع المُحبب لأي سيناريو، ولأي فيلم، هو توضيح الحالة أو الحالات الدرامية التي يود النقاش الدرامي عرضها وتطورها وحلها، والمفاهيم في حياتنا الحقيقية هي التي تُشكّل مضمون العقدة، وإنّ قوة الفن ومجال وسائله التعبيرية تتأكد من مدى مقدرتها على ضبط المفاهيم الحياتية وإيجاد الإمكانيات والأشكال الجديدة لتجسيد المجتمعات الإنسانية تجسيداً فنياً. وفي تقدير الباحث يكمن السبب الرئيسي للشح الدرامي في كون الدراميين لم يُضمنوا القضايا الحياتية، وإنما مروا بها مروراً. وعلى الدراما من وجهة نظره أن تعرض هذه القضايا، وإلا فهي ليست دراما، فالفنان يُفترض أن يعرف الحياة من حوله، ويرصد ما يدور في محيطه من أحداث. إذاً هل على السينما محاكاة الواقع والحقيقة؟

للإجابة على هذا التساؤل؛ يُقارن الكاتب بين المسرح والسينما. ففي المسرح لا ينتاب المُتفرج أي تشويش فكري عندما يقف الممثلون في نهاية العرض المسرحي يحيون الجمهور، ويكون من بينهم بطل المسرحية "هاملت" وقد رأوه يموت لتوه في مؤامرة حيكت ضده. أما في السينما، فمثل ذلك يُسبب تشويشاً، لأنّ البطل والممثل في العرض النهائي هما واحد بالنسبة إلى المتفرج. إنّ وسائل التعبير في المسرح هي أكثر شرطية. ففي المسرح نعتقد بحقيقة الأحداث ولو بمجرد التنويه عنها، إنّ الحقيقة بالنسبة إلى المكان يرسمها المؤلف المسرحي للمتفرج عبر الحوار المسرحي للممثلين، هذا الحوار الذي هو الضعف من حيث الكم في السيناريو، فالمتفرج يتفهم وضعاً ما من خلال الممثلين. في السينما التي استفادت كثيراً مما تقدم، فإنّ العمل ينمو تلقائياً وكذلك الأسلوبية. إنّ الاقتراب من الحقيقة في المسرح يُسبب إزعاجاً في سبيل تقبل الموضوع على أنه حدث حقيقي. وإنّ الحقيقة المُصطنعة لما يُقدمه الممثلون على المسرح تتطلب في حدِّ ذاتها شروطاً أساسية للمكان، ولكن ليس إلى حد مُجاراة الحدث بكلِّ ما يرد فيه من أمكنة. وإن الحقيقة المُصطنعة في السينما تختلف عنها في المسرح. على الشاشة ينصهرُ الممثل مع المكان الذي يُمثّل فيه، وكذلك في الشخصية التي يُمثلها، من هنا على الفيلم أن يحمل لمشاهديه حقيقة الأحداث التي يعرضها لهم، ومن ثمّ يُضفي الممثل على الحدث جانباً ملموساً من ذاته. ومن هنا أيضاً تبدو الأهمية في استخدام الأماكن الحقيقية ومدى إنجاحها للفيلم.

ولكن ليس معنى ذلك أنّ الفن السينمائي حقيقي أكثر من المسرح. الفيلم الحقيقي والمسرح الحقيقي، يُعالج كلٌّ منهما مادة الحقيقة وفق تقنياتهما المتباينة. اللغة السينمائية لها صفاتها الخاصة، وكذلك المسرح. فالقطار يُمكن رؤيته في الفيلم السينمائي، أما في المسرح، فيحس المُتفرج بوجوده لا أكثر.

----

الكتاب: الدراما السينمائية

الكاتب: سيمون فرايليش

ترجمة: غازي منافيخي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب