يعتبر ما تركه المفكر العربي الإسلامي ابن خلدون من دراسة حول موضوع القيمة بالغ الأهمية وجديراً بالدراسة والتمحيص، وإذا كان ابن خلدون قد عاش في بيئة وزمن يبعد أكثر من أربعة قرون المناقشات حول القيمة، فكيف كان مفهومه لها إذاً؟ فلقد كان مفهوم القيمة عنده يتركز بشكل أساسي على العمل، وبذلك أبرز أهمية عنصر العمل وصوره في تحديد قيم الأشياء المنتجة، كما قرر بأن المكاسب هي قيم الأعمال، وأن الأعمال هي سبب الكسب، وكثرة الأعمال هي السبيل إلى الثروة، فيقول: "إن المكاسب هي قيم الأعمال، فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمتها".

وتنبه ابن خلدون في وقت مبكر أي قبل ظهور علم الاقتصاد بمفهومه الحديث إلى أن هناك سلعاً ذات قيمة للبشر، ولكن لم يتدخل فيها العمل البشري، وهذه السلع المسماة في الاقتصاد السياسي بـ "السلع الحرة"، ولهذا نجده يقول في عبارته الشهيرة عن مفهوم القيمة: "إن المفادات أو المكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية"، وبالنسبة إليه فإن السلع الحرة ليست من عمل الإنسان غير أنها تعتبر مساعدة له على إظهار القيم الاستعمالية للأشياء التي تدخل في مساعدتها، فإذا لم تقترن بعمل الإنسان الذي يجعلها مفيدة، فإنها تبقى قليلة الجدوى إن لم نقل معدومة في خلق قيم يُستفاد بها. ولم يتوقف ابن خلدون عند هذا المفهوم للقيمة، بل ذهب إلى أن مصدر الكسب "الثروة" إنما أساسه العمل الإنساني، ويقرر بأن زيادة الأعمال البشرية سوف تؤدي إلى زيادة الثروة.

وإذا كان موضوع القيمة بصفة عامة يحتل مكانة بارزة في الاقتصاد السياسي، فإن البحث في أنواع القيمة لا يقل أهمية، لأن ذلك من شأنه أن يسهل فهم القيمة. وقد استطاع ابن خلدون أن يفرق بين نوعين من القيم (الاستعمالية والتبادلية)، ويلاحظ أن ما توصل إليه من معرفته الدقيقة والموضوعية بأنواع القيمة يجعله من بين أهم المفكرين الذين تناولوا هذا التقسيم سواء في القديم أو عند رواد المدرسة الكلاسيكية أو في عصرنا الحديث.

وبالنسبة إلى ابن خلدون فإن الأسعار تعتبر الوسيلة للتعبير عن قيمة السلع والبضائع عند تداولها بين الناس، حيث اعتبر السعر هو التعبير النقدي عن قيمة السلعة، أو المقياس النقدي للقيمة. كما فرّق بين نوعين من السلع (الضرورية والكمالية)، ورأى أن أسعار كل السلع الموجودة في الأسواق تخضع بغرض التبادل إلى التغيرات سواء بالارتفاع أو الانخفاض، ذلك تبعاً للتقلبات السائدة في الأسواق.

كذلك تطرّق ابن خلدون إلى مفهوم الإنتاج بمصطلحات عصره التي كانت متداولة فيما يخص مفهوم الإنتاج، ومن أهمها المعاش والكسب. وفي بعض الأحيان يأتي مصطلح العمل دالاً على العملية الإنتاجية في مفهومها الواسع، فالإنتاج بالنسبة إليه هو أولاً نتيجة لرغبة الإنسان الطبيعية في الحصول على حاجات معينة، وهذه الحاجة دفعت الإنسان لأن يخترع هذا الكم الهائل من الوسائل التي تضاعف وتضمن له ما يكفيه من غذاء، وما يتبع هذا الغذاء من مسكن وملبس، لكن الرغبة أو الطلب في رأيه لا بدّ أن تصاحبها حركة أو فعل، وهذا لا يتم إلا بالسعي، حيث يتدخل العقل واليدين لتشكيل محيط يساعد على إنتاج ما رغب فيه الإنسان، وعندما تتحقق الرغبة عن طريق السعي والحركة، نسمي هذا الفعل بالإنتاج، ونسمي نتيجته بالسلعة أو المنتج.

إذاً فإن مفهوم الإنتاج عند ابن خلدون هو السعي والحركة التي تبذل من أجل تحقيق الرغبات الإنسانية التي تؤدي إلى إشباع الحاجات الإنسانية المتنامية والمتزايدة، وهو الأساس الذي ترتكز عليه الحياة البشرية لأنه يمثل المصدر الأساسي لعملية الإشباع سواء كانت الحاجات المطلوبة طبيعية أو معنوية.

كما يفترض ابن خلدون أن زيادة السكان تلعب دوراً إيجابياً في زيادة النمو الاقتصادي، ويبرر هذه الفرضية بأن زيادة السكان تؤدي إلى ظهور التخصص وتقسيم العمل، وهذا يولد ارتفاعاً في مستوى وحجم الإنتاج بالشكل الذي تزيد فيه المنتجات شيئاً فشيئاً إلى المستوى الذي تشبع فيه الحاجات الضرورية، فيتجه التخصص إلى إنتاج السلع الكمالية، وهذه الزيادة في الإنتاج يتولد عنها زيادة في الدخول، ثم إن ارتفاع الطلب والإقبال على استهلاك السلع يؤدي إلى نشوء صناعات وحرف جديدة، وينمو نشاط الخدمات وهكذا.

وهناك قانون اقتصادي سابق لأوانه كان قد اكتشفه ابن خلدون، بيّن فيه أنه كلما زاد الدخل زاد الإنفاق، ومتى عظم الدخل والإنفاق ارتقى مستوى المعيشة نحو الأفضل، وظهر التقدم والنمو في كل الأحوال. كذلك نظر ابن خلدون إلى الإنسان على أنه أساس كل تنمية وتقدم، وأن زيادته هي التي تحافظ على هذا التقدم والازدهار، وأن الزيادة السكانية تؤدي إلى التخصص الذي بفضله يزيد الإنفاق ويجعل كل شيء ينمو ويزدهر.

وفي تحليله للحركة السكانية يكشف عن تحليل اقتصادي رائع، حيث يقول إن الطلب يزيد بزيادة الدخل، وإن الدخل يتوقف على الإنتاج، وإن إنفاق شخص أو قطاع هو دخل بالنسبة لشخص أو قطاع آخر.

----

الكتاب: بداية أسطورة مؤسس علم الاقتصاد الحديث الرائد ابن خلدون

الكاتب: الطيب داودي

الناشر: المجمع العربي للنشر والتوزيع