أجمل ما في القصيدة اليوم، أنها تحررت من وهم الموسيقا، التي كانوا ينظرون إليها على أن لا شعر دونها، بل وأن بعض هؤلاء "الدبيكة" لا يملون يبحثون داخل القصيدة عن هذه الموسيقا، وقد كانوا ينتشون بها خارجها وزناً وقافية.

أجملُ ما في قصيدة اليوم هي قربها من قارئها حتى يكاد يظنُّ نفسه مؤلفها، أو ساهم في تأليفها. مفردات عاينها طويلاً غير أنه فجأةً وبضربةٍ شعرية عالية وجدها في سياق جديد أدهشه ويُدهشه.

أقولُ ما تقدّم وبين يدي مجموعة الشاعرة عبير سليمان في سادس اشتغالها الشعري: "وسائد موقوتة"، والتي أجمل ما فيها إضافة إلى ما ذكرناه أعلاه: إنّ قصيدة النثر، تستطيع وبكلِّ "مونةٍ" أن تستعير من مختلف فضاءات الإبداع الأخرى ما يُتممُ شعريتها، دون أن تتماهى بها، ومن دون أن تنسى أن تجري بعد ذلك في ميادينها الخاصة كمهرةٍ في السهول. وربما أكثر ما يظهر ذلك في ديوان الشعر السوري اليوم الذي أمسى بملامح هذه الفضاءات من مشاهد وحكايا. أقولُ مشاهد وحكايا، حيث الأولى يستعيرها الشعرُ من مناخاتٍ مختلفة: السينما، التشكيل، والتصوير الضوئي. والحكائية: التي تستعيرها القصيدة من القصة القصيرة والرواية وغيرها من فنون السرد.

هنا النصوص بمشهديتها اللافتة لا تملُّ تضعنا أمام لقطات درامية متكاملة، جذابة مثيرة للعاطفة، وعنوان "مفخخ" يضمن للخواتيم صدمتها، لنجد أنفسنا أمام نصوص حكائية بامتياز مفعمة بالرمز والإيماء والتلميح التي تُحيل النصوص بكلِّ جرأةٍ بأعمدتها القصوى إلى المعنى الكامن تبعاً للخصوصية التأملية لكلّ قارئ، لا سيما وأن الكثير من هذه النصوص قارب القصص القصيرة جداً في عمارتها الفنية، وبأركانها المعروفة، ومن نافل القول دون أن تنسى مساحتها الشعرية اللائقة. من خلال التكثيف والاختزال الذي ينتج التوتر، وينعش العقل، والذي عليه بدوره أن يعثر على طريقة تُعيد ملء "الثغرات البلاغية" في متن النص التي اعتمدت على تقنيتي: الإخفاء والإضمار، ومن ثمّ الخواتيم التي تأتي غير نمطية ومدهشة، وكذلك الاشتغال على التكثيف والذهاب إلى اكتشاف طاقة المفردة بحيث يتم التخلص من الزائف وبناء لغة صحيحة باستخدام ما ترمي إليه الألفاظ بجوهرها لا بظاهرها من خلال تقنية التضاد والتوازي، والربط بين الثابت والمتغير. وفي "وسائد موقوتة" ثمة الكثير من المشاهد التي تسرد كحكايا مفعمة بالشعر:

"قلتُ لك لا تُحبني،

فقلبي يتعلق كالأخطبوط؛

بثماني أذرعٍ تُعانقك،

كما لو أنك فريستي.

ستختنق، وتقطع أذرعي دفاعاً عن نفسك.

لكنك تجاهلتَ نصيحتي وأحببتني،

فلم يعد بوسعي بعدها

سوى استدانة ذراع الشعر

كي أعانقك مُجدداً".

وإذا ما أشرنا إلى سمة الحزن والمرارة التي تتشحُ بها النصوص، وهي ملمحٌ آخر في نص اليوم، حيث الخيبة تبدو كصبيةٍ زاهية بكلّ المرارة في نص عبير سليمان، حتى كأنّ ثمة من بدّل الحياة المشتهاة بنقيضها، تبديلٌ أقرب إلى السرقة والتزوير، وكأنه أراد أن يفوّت علينا فرصتنا الوحيدة في هذه الحياة، ونحن الذين كنا نريدُ عمراً يليقُ بها، ومن هنا يبدو وسعَ الخيبة والخذلان، وحجمهما الكبير، ونحن نُحشرُ في هذه الدنيا البديلة، أو في هذه الدنيا التي ليست لنا، وليست على مقاسنا. ما تقدّم سيكون درساً قاسياً ستتعلمه الشاعرة لتكون "بخيلةً" مع هذا الوقت الذي هو الآخر يسرقُ دون أن نشعر به كلَّ جميلٍ نحبه، ومن هنا لا بدّ من محاربته بجمالٍ آخر، سلاحٌ آخر، هو القصيدة التي تلجأ إليها الشاعرة غير مرةٍ وحين كلِّ خيبة، أو قلة حيلة، حتى وإن بدا على الخصم، وكأننا نلاعبه، ومع ذلك هي نصيحة تبثها الشاعرة لتضع حدّاً لإفلاسٍ قد يحصلُ فجأةً وعلى حين غدرٍ:

"كنتُ أربّي للكون

شراسةً تليقُ بقسوته،

وكنتَ تطلي أظافرها بماء الورد،

كمن يهزأ بقدرتي على القتال،

وها قد كبرتْ شراستي،

فأصبحت لغةً،

وكلما واحهتُ الكونَ بها؛

ضحك

كأنني أدغدغه!".

الكتابة التي تُمسي أقرب إلى التدواي بها، أو الاحتماء، وربما كملاذٍ أخير، يحمي خشية وحوشٍ بريّة، أو كمعطفٍ خشية برد، أو تصير القصائد رفاق دربٍ طويل وغربة موحشة، وقد ذهبت ضربة الحظ صوب خواء موحش، التدواي بالشعر كثيراً ما تلجأ إليه الشاعرة في "وسائد موقوتة" كقارب نجاة:

"ضربني الحظُّ بحجرٍ،

فكتمتُ صرختي..

ضربني الحبُّ بنساءٍ أخرياتٍ،

وما رمشتُ..

ضربني الأهلُ بالتخلي،

فصنعتُ

من القصائد عائلةً كبيرةً".

ثمة أمرٌ آخر ملفتٌ في نص عبير سليمان، رغم عدم إفراطها في استخدامه، والذي هو "التنصيص"، أو ربما الأدق "التناص" الذي تأتي به سواء من مورثٍ بعيدٍ أو قريب، قد تكون الغاية المقاربة، أو إنشاء المُعادل، وقد يكون للتذكير بالحكاية القديمة في النص البعيد، على أنها لا تزال تتكرر، في مشهد إعادة التاريخ لتكراره ذات الحكايا، وحيناً، لتناكفُ هذا "المأثور" الذي قيل كثيراً وطويلاً، ومن ثمّ تأتي بمعاكسه، أو بما هو مختلفُ عنه:

" السيلُ يمضي ليقضّ ظهرك،

ولا قميص يوسف لأردَّ به البصر

إلى قطعان العيون الكفيفة،

ولا عصا موسى

تشقُ خلاص أبنائك المذعورين،

ولا كرامات المسيح".

نصوصٌ قريبة من الناس، لا جزالة تجعلها باردة لا روح فيها كمفردات القواميس الغريبة، ولا غموض ينمُّ عن ذهنية مُلتبسة، وإنما مفردات تستمدُّ بلاغتها من الطاقة الكامنة فيها التي تسفحها الشاعرة على مدى البياض حارةً وطازجة، وتكاد تُلمسُ بالأصابع؛ حيث الشعر روح هذا العالم الأسمى، وحيث الشاعرة تتماهى مع الجمال من حولها، دون أن تنسى وهي تلتمُّ على خائب الرجاء بلحافٍ دافئ من بلاغةٍ مُضادة عمادها: الانزياح، والإخفاء، والرمز، والإضمار لتجعله مُشاركاً في بناء هذه العمارة الشعرية، حيث القصيدة همٌ شخصي يعني الآخرين كثيراً.

"القمرُ

يجهلُ عنوان نافذتي،

والفرحُ سافر بعد أن

باعني البيتَ

مع حق انتفاع الحزن

مدى الحياة..

لا قلق من أملٍ جديدٍ إذاً؛

أظنهُ

الجانبَ الرقيق من الكآبة".

----

الكتاب: وسائد موقوتة

الكاتب: عبير سليمان

الناشر: الهيئة العامة السّورية للكتاب