إن السعي المستمر لفهم آلية حدوث السلوك عند الأفراد يعد أهم اهتمامات علم النفس، ولذا يجتهد علماء النفس لوضع النظريات المختلفة في هذا المجال، خصوصًا في ظل تعدد الاختلافات بين الأفراد في تعلم المعارف والمهارات واكتساب الاتجاهات.

إن مجرد قبول أن كل الأفراد يتعلمون بطريقة واحدة، ويقومون بحل المشكلات بأسلوب واحد، يحدد القدرات ويقلل حدوث الإبداع الفكري في المجالات كافة. ومن هنا أصبحت مسألة الفروق الفردية وفهمها من قبل علماء النفس وعلماء الدماغ موضوعاً مهماً سيؤثر على عملية التعليم عند الطلاب وعلى المجال التربوي بكامله. وفي ظل البحث في هذا الأمر ظهرت نظرية الذكاءات المتعددة في عام 1983 على يد الطبيب المختص بعلوم الدماغ هوارد غاردنر في كتابه" أطر العقل" Frames of Mind الذي نحا نحواً مختلفاً عن بقية الباحثين في محاولته تفسير طبيعة الذكاء. وقدم نظرية لتفسير السلوك الإنساني، ووجه الأنظار إلى إعادة النظر في سبب الاختلافات بين البشر، وأهمية ودور المجتمع والبيئة في اكتساب مهارات وقدرات تمكنهم من التكيف وحل المشكلات التي تواجههم.

فالمفهوم التقليدي للذكاء يرى أن الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء، وهو قدرة عامة موجودة عند جميع الأفراد بدرجات متفاوتة. ولا يمكن للذكاء أن يتحسن من خلال التدريس أو التدريب أو الخبرة لأنه استعداد فطري عند الفرد. أما جاردنر فقد قدم تصورًا تعدديًا للذكاء، ورأى أن كل إنسان يمتلك على الأقل ثمانية ذكاءات مستقلة ولكن بشكل نسبي، وانطلق من مسلمة هي" كل الأطفال يولدون ولديهم كفاءات ذهنية متعددة، منها ما هو ضعيف ومنها ما هو قوي ومن شأن التربية الفعالة أن تنمي ما لدى المتعلم من كفاءات ضعيفة، وتعمل في الوقت نفسه على زيادة تنمية ما هو قوي لديه"، وبذلك أقر بتأثير التربية والبيئة والخبرة على تطور الذكاءات. كما أن المميز في نظرية الذكاءات المتعددة أنها أكدت مجموعة من الكفاءات لدى الإنسان لم تعترف بها اختبارات الذكاء التقليدية، وإنما صنفتها كمواهب مثل الذكاء الموسيقي والحركي، وأعطت العاملين في مجال البحث التربوي والنفسي إمكانية تحديد نقاط القوة والضعف عند الأفراد، ونتيجة التفاعل الدائم بين الوراثة والتدريب المبكر يمكنهم تنمية ذكاءات معينة أكثر من الآخرين. والذكاءات التي قدمها هوارد غاردنر هي:

-الذكاء اللغوي (Verbal-Linguistic Intelligence) : القدرة على التفكير في الكلمات واستخدام اللغة للتعبير عن المعنى الذي يريده، وعادةً ما تكون نسبته عالية لدى الكتاب والصحفيين والشعراء. ويحسن الشخص مهارته في التحدث وزيادة ذكائه اللغوي من خلال القراءة أو سرد القصص أو تعلم لغة جديدة أو لعبة الكلمات المتقاطعة.

-الذكاء المنطقي أو الرياض ( Logical-Mathematical Intelligence) القدرة على فهم العلاقات وترابط الأشياء وقياسها بالشكل الصحيح، بالإضافة إلى القدرة على التحليل والاستنتاج. هذا الذكاء يتميز به المحاسبون ومبرمجو الحاسوب والمُختصين بالمعادلات الرياضية والألغاز المنطقية

-الذكاء الموسيقي(Musical-Rhythmic Intelligence) الاهتمام بالأصوات والموسيقى والأغاني، وتمييز الإيقاع والنغمات والتعرف على بنية وتقسيم الأغاني، وهنالك علاقة وثيقة بين الموسيقى والعواطف، ويظهر عند مؤلفي الألحان والإيقاع، مهندسي الصوت، خبراء السمعيات، المغنين.

-الذكاء الاجتماعي أو التفاعلي (Interpersonal Intelligence) القدرة على تكوين علاقات اجتماعية والحفاظ عليها، بالإضافة إلى قدرتهم على تفهم الآخرين والتعامل معهم بشكل مناسب وفهم دوافعهم ومشاعرهم، وتقديم المساعدة لهم أو تعليم الآخرين، وقد يكونوا أطباء نفسيين أو سياسيين أو علماء اجتماع.

-الذكاء الفردي أو الشخصي (Intrapersonal Intelligence) القدرة على فهم مشاعره الخاصة وتحديد أهدافه ومعرفة مخاوفه،وقدرته على التخطيط والتصرف بطريقة مناسبة تماماً له ولشخصيته، ويظهر عند العلماء، الحكماء، الفلاسفة، والمنظرين.

-الذكاء البصري (Spatial intelligence) ملاحظة التفاصيل في الصور أو الأشياء، أو الرسم، وعمل رسومات فنية أو بيانية، وحل الألغاز المتعلقة بالصور والأشكال، ويظهر عند الرسامين والمعمارين.

-الذكاء الجسدي أو الحركي (Movement intelligence) القدرة على التحكم في أعضاء الجسم بمهارة، وعادةً ما يمتلك هذا النوع من الذكاء لاعبو الجمباز والراقصين.

-الذكاء الطبيعي (Naturalist intelligence) وهو القدرة على التعامل مع الطبيعة، والتعرف والتمييز والتصنيف للنباتات والحيوانات، وغير ذلك مما هو موجود في العالم الخارجي، ويمتلكه علماء الفلك، علماء النبات والحيوان.

إن نظرية الذكاءات المتعددة أحدثت ثورة في المجال التربوي والتعليمي، فقد وجهت النظر إلى الطاقات الدفينة لدى كل فرد، والتي إذا ما تم تدريبها بشكل جيد سيولد جيل من الموهوبين والمتميزين، لديهم أساليب متعددة ومتنوعة لحل المشكلات، ولديهم القدرة على التكيف في مختلف الظروف، ولديهم طرق عديدة للتعامل مع معطيات العصر وما فيه من متغيرات.

وإن فهم المدرس للشخصيات المختلفة للمتعلمين وإدراكه لحقيقة أن الطلاب مختلفون باهتماماتهم وقدراتهم ومواهبهم وطباعهم، وأن لكل طالب صفحة ذكاء خاصة به، فيقدم الأنشطة بما يتناسب مع ذكاءاتهم مستخدمًا طرائق متعددة تناسب هذه الاختلافات، فهو بهذا يوسع قاعدة الفهم والاستيعاب لديهم، فيكون إنتاجهم متنوعاً. وهذه العوامل تلعب دورها الفعال في عملية التعلم، ما يجعله أكثر مرونة أثناء تقديم المعلومات لخلق الفرص أمام جميع الطلاب ليتمكنوا من استخدام قدراتهم المكبوتة.

----

المراجع:

- الفروق الفردية في القدرات العقلية والقياس والتقويم النفسي والتربوي للمخ البشري، حسن الجبالي، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 2004.

-مدخل إلى نظرية الذكاءات المتعددة، محمد عبد الهادي حسين، دار الفكر الجامعي، فلسطين، 2005.

-Howard Gardner (1993): Frames of Mind, The Theory of Multiple Intelligences, NewYork,10th ed, Basic Books.