حتى اليوم بقي حظ العرب في وضع مناهج نقدية خاصة بنتاجاتهم الإبداعية، ليس قليلاً وحسب، وإنما خجولاً ولا حتى يُذكرون في إنشاء واكتشاف المدارس والاتجاهات النقدية التي تمّ اعتمادها في العالم.

والمحنة عند النقّاد العرب ليس في عدم ابتكارهم لمدارسهم النقدية التي يقرأون من خلالها النص واللوحة التشكيلية والعرض المسرحي وغيره من أنواع الإبداع المحلية، وإنما اعتمادهم لتلك المدارس والمناهج النقدية الأجنبية في قراءة نصوص عربية مُعاصرة وحتى أحياناً نصوصاً تمّ انتاجها في أزمنة بعيدة، في حين أنّ الاتجاه أو المنهج النقدي الذي يدرس من خلاله الناقد العربي العمل الإبداعي المحلي يكون قد فقد صلاحيته اليوم عند هؤلاء الأجانب الذين ابتكروه، بعد أن وجدوا فيه الكثير من العيوب والنواقص.

وهو ما يقول عنه الدكتور جهاد عطا نعيسة: "ألاحظ إسراف بعض المشتغلين في الحقل النقدي في الاحتفاء بهذا المنهج النقدي أو ذاك، بهذه المدرسة الأدبية أو تلك، احتفاءً استلابيّاً مؤشره ترديدٌ دائمٌ، شفهيٌّ وكتابيٌّ، لأهمية "منهجهم" المُتبع، ونتاجٌ نقدي متواضع جداً، يكاد يكون في جملته تطبيقاً درسيّاً للمنهج المذكور ليس إلا.".

ويُضيف د. نعيسة في كتابه (في الرواية والقصة القصيرة – بحوث وقراءات) في هذا الوقت يُلاحظُ فيه هجرة غير قليلة من أقطاب النقد الغربيين لمدارسهم ومناهجهم إلى مدارس ومناهج أخرى، منددين بمنهجهم السابق، أو لافتين إلى أهميّة النقد القديم الشائع قبل هذا الانتماء. ويذكر أمثلة كثيرة عن هذه الظاهرة. فهذا هو رولان بارت الباحث الجمالي الفرنسي البنوي (1915 – 1980)، يقول مُعرّضاً بالبنوية وأنموذجها العاملي وحضورها المعرفي والنقدي، فيما هو ينتقل إلى السيمائية، ثمّ إلى التفكيكية: "تحشرُ البنوية أحداث العالم في حبة فاصولياء". وأما المنظّر الأمريكي جيفري هايمان فيجهر في كتابه (التحليل النفسي وسؤال النص)، بحنينه إلى النقد الانطباعي ونجاحاته الباهرة. من هنا يؤكد د. نعيسة: "إن استباق النص الإبداعي بمنهجٍ ناجز، وجاهز للتطبيق مع كلّ نص، بغض النظر عن مستواه الفني، هو تدميرٌ حقيقي للروح الإبداعية في الأدب والفن، وخاصة حين يستحيل النقد سلسلة من الخطاطات والرسوم التوضيحية والجداول التصنيفية المسئمة. ذلك أنّ الناقد الكفؤ ما كان يوماً، ولن يكون مجرد تلميذٍ نجيب يُردد في كل مناسبة دروساً حفظها عن ظهر قلب.

من هنا أيضاً؛ يختار د. نعيسة النقد الذي يستجيب لخصوصية وخصائص العمل الإبداعي، نقد قد يكون متعدد الانتماء المنهجي، كنقدٍ قريب مثلاً من "النقد التكاملي" وذلك في قراءته لعدد من الأعمال الروائية والقصصية منها: "أعدائي لممدوح عدوان، شحنة شجن لنجلا أحمد علي، تخييل لسحر خليفة، العرّاف والوردة لمحمد أبو معتوق، وجهات الجنوب لممدوح عزّام". ومجموعات قصصية منها: "في البحث عنها لحسن حميد، وقصصاً لملك حاج عبيد، وشوقي بغدادي". نقد يلاقي "التكاملي" ويتفاعل معه، ويتجاوزه أحياناً، نقد تعددت تسمياته، وتوحد جوهره، منذ أطلقه داعيته الأول الأمريكي "ستانلي إدغار هايمان" في مؤلفه (النقدي الأدبي ومدارسه العديدة). وذلك من خلال نص نقدي طالما سعى إليه – كما يذكر – يستنفر كلّ معرفةٍ مناسبة للخوض عميقاً في مكونات النص الإبداعي، نص نقدي هو حصيلة تفاعل جدلي خصيب بين صرامة العلم ورصانته وحيوية الفن وحراراته، نص نقدي يقف بندية وجنباً إلى جنب مع النص الإبداعي الذي يحاوره، فيقنع قارئه ويمتعه في آنٍ واحد.

ونختار مما قرأه في هذا المنهج النقدي قراءته لرواية (أعدائي) للراحل ممدوح عدوان، الذي وجد فيها أن عدوان يؤكد قضية إبداعية في غاية الأهمية، وهي عودة الرواية إلى مصادر أصالتها وجمالها ومتانتها وقوة إقناعها، ويعني بذلك حفرها وتفاعلها العميقين في ومع تجارب الناس، وقضاياهم بعيداً عن كلّ الأشاغيل الشكلية التي أفقدت الرواية كثيراً من معناها، ومسوّغ وجودها، وقوة تأثيرها في الذاكرة والضمي.. والتي يرى في شاغل (أعدائي) شاغلاً سياسياً يجعل منها رواية سياسية بغير لبسٍ، وفي سياسة "أعدائي" تتوالى أسئلة مهمة، تصلُ الماضي قناعاً وحقيقةً بالحاضر، وهي أسئلة مهمة لأنها تتصل بالحلقة الأكثر تأثيراً بالحاضر: الوجود الوطني المهدد في عصرٍ يُنصّب القاتل ضحية بصفاقةٍ لم يعهدها عصرٌ من قبل.

هذه هي الحلقة المركزية التي توجهها (أعدائي) وهي تخترق سطور التاريخ، وما بين سطوره، زمن "المريض العثماني" وسنوات حكمه الأخيرة للبلاد العربية، وبُعيد خروجه منها، وإقامة ما عُرف بـ "الحكم العربي". رواية (أعدائي) التي يجدها الناقد نعيسة عملاً روائي يستحق الاهتمام، في جملة القضايا التي يُثيرها ويُحاورها، وخصوصاً في الحقل الجمالي للأداء الروائي؛ إذ يؤكد وهو يتوّج حقبةً طويلة من الهاجس الغالب لتحطيم الشكل الروائي، وجملة خصائصه، وأسس روائيته، أنه لا يزال بمقدور هذه المقومات أن تنتج نصوصاً جميلة ومقنعة وممتعة بما فيه الكفاية، فقد استطاع وهو النص العميق في وضوحه، أن يقبض على أكثر القضايا حرارةً وأهمية، بعيداً عن كلِّ أنواع التزلف إلى توجهات الذائقة الرائجة في صفحات الإبداع والنقد.

----

الكتاب: في الرواية والقصة القصيرة – بحوث وقراءات

الكاتب: د. جهاد عطا نعيسة

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب