لا يجعلك الشاعر أحمد نصرة؛ تنتظر طويلاً، وأنت تقرأ مجموعته الشعرية "أنعم بالعمى"، لتعرف شواغل القول الشعري، وتتعرف على مفردات قاموس القصيدة لديه. فهو منذ البداية يُعلن انحيازه لعائلة الشعراء الحزانى، الذين بقوا يتفيئون برج الخسارة، شعراء لا يعتبرون "الفرح" مهنتهم.

يطلُّ "الحزن" من أولى عتبات المجموعة، التي هي في حكم "الإهداء":

"مرجُ أحزانٍ هذا القلبُ

مواسم..

إلى نوال والدتي..

رفيقة ما تبقى من العمر الحزين".

من تلك العتبة "الإهداء" سيكرر الشاعر مفردة الحزن، وسينوّع عليها في أكثر من تركيبٍ شعري، بل سيدعو لمرافقتها أسراباً من المُرادفات؛ لتُسلي الحزنَ في عزلته، وربما لتنشئ فرحاً لهذا الحزن أو تُقيمُ له تلك المواسم الطويلة، حتى بدت غاية الكتابة عند أحمد نصرة هي الاكتفاء بما تيسر من سرد مشهد الفجيعة.

"لمَ تكتب؟

لأنعمَ بالعمى!".

وكنّا نظنّ أنه بالكتابة يُمكن للمرء أن ينعمَ بفتح نوافذ جديدة، وأن غاية الكتابة أن تُعطي أمداء أرحب، ونطلّ من خلالها إلى فضاءات جديدة. فيما شواغل الكتابة عند الشاعر نصرة؛ أن يُسدلَ أستاراً لأجل إطباق العتمة، وللوصول لأوسع قدرٍ من العزلة.

"استنيرُ بالعمى،

واكتبُ حكمتك ببدائية التكوين

لحركة الحياة

أنا المائي،

المستقر،

المتحرك،

ابن التضاد

بين الطبيعة والكلمة".

في الأحوال كلها، تبدو الفعالية الشعرية عند صاحب "أنعم بالعمى" في اللعب على هذه المفارقات، ليصل بها حدّ التناقض، ذلك أن المُفارقة تبدو غاية خواتيم القصيدة، التي يأتي بها كمن يدلق بوجهك دلو ماءٍ بارد. ذلك ما ذهب الشاعر يُرتبه على مدى طاولة البياض، في سرد حكائية حزينة غالباً ما يستعذبُ سردها وروايتها في ومضات غالباً ما تأخذ من قصارى القول سمةً لها، حتى لتبدو في وثبات غزال رغم كل ما توحي به المفردات الحزينة من تأويلات الإيقاع البطيء، وربما يكملُ نصرة هنا لعبته الأثيرة في الاشتغال على المتناقضات لأجل المفارقة الإبداعية التي تهفو نفسه لاستحضارها، وربما هنا ثمة تحدٍّ شعري يسعى نصرة لخوضه، بعد أن يكون قد حضّرك، لنوبةٍ إيقاعٍ طويلٍ من الحزن. مع ذلك غالباً ما تشعر بأحمد نصرة كصيادٍ يصيدُ عصافير المفاجأة التي تُحيل القول إلى الشعر العالي.

ذلك، ما يجعلك في مواجهته منذ عنوان المجموعة، الذي يُشير بطريقة ما، إلى هذه النظرة الآسية، التي تضعك في دائرة التساؤل: أية نعمةٍ يُمكن للمرء أن يجنيها من بساتين العماء. وهو يفتح المشهد المُفعم بالمرارة، هذا الحزن الذي يبدو كتركات نتوارثها من أحبةٍ رحلوا، وهو هنا إرث يزن أطناناً، حزن يتجلى كلبوساتٍ نرتديها في مواسم الخذلان والتي تبدو "مُزدهرة" في كلِّ الفصول، تماماً كزراعاتٍ محمية.

"فستان الليل الذي

ارتدته أمي منذ خمسين عاماً،

وكانت تنوي بفرحٍ غريب

أن تأتي بي إلى هذا العالم

أرتديه اليوم،

أبحثُ عني".

ولأنّ صوت الحزن هو الأعلى بين "شخصيات" الشاعر الدرامية، من هنا نتفهم كثرة هذه المفردات التي ينسجها الشاعر في تراكيب تشي هي الأخرى بما يُقارب هذا الشعور الإنساني الموجع، فتكثر مفردات الليل، العمى، الموت، الفقد، الخريف.. وغير ذلك من المفردات التي "يستثمرها" الشاعر في غواية شغله على المتضادات الشعرية، حتى وكأنه يوحي لك أنه يستعذب بفرحٍ الهدأة في جلباب هذا الليل الحزين. هل لأجل ذلك أهمل أحمد نصرة عناوين النصوص، ولم يشر لنصٍّ بعنوان، وإنما قام بتوزيع النصوص على صفحات البياض تاركاً لدار مجموعته باباً وحيداً ولا نوافذ، بابُ دارٍ لا تُفتح بغير مفتاح وحيد، يغوي بالنعيم، وأي نعيمٍ يرصد له اسم التفضيل "أنعم" في عنوانٍ من كلمتين.

"والفقدُ، قالوا

شوقٌ لا يسكن بلقاء

الفقدُ أيضاً

لقاء

لا يحققه شوق".

ولأنّ الحزن النبيل، الذي يشفّ، غالباً ما تتخلله الرقة المُفرطة، فكان أن ألبس أحمد نصرة نصوصه مثل هذه التواشيح الأقرب إلى ترانيم صلاة وتراتيلها. لعبة لغوية تصير كنسيم عند مساءٍ صيفي، أو تنعش كمداعبة هواء فجر الحقول. وأخيراً نختمُ بهذا النص الذي يبدو أنه دخل خلسةً في مجموعة "أنعم بالعمى" لنحصل على ذلك الضوء في آخر زوايا هذا الليل الطويل:

"ويسألون عن الجنون،

قل:

الجنون

أن تكوني حبيبتي

وأكون عاقلاً".

----

الكتاب: أنعم بالعمى

الكاتب: أحمد نصرة

الناشر: دار بعل، دمشق