قدم الشاعر الكوري كُو أون، ما يُقارب مئة وخمسين كتاباً، تنوعت بين الشعر الذي قدم من خلاله سبعين مجموعة شعرية، وما يُقارب العشرين رواية، وحوالي خمسة عشر كتاباً في النقد، وثلاثين كتاباً في النثر، وخمسة كتب في أدب الرحلات، ومثلها في أدب الأطفال، وغيرها أيضاً في التراجم، والسيرة الذاتية، وفي الترجمة كذلك.

هذا الكم الهائل من النتاج الإبداعي لهذا الأديب الكوري، كان خزان تلك الحيوات التي يصرّ هذا الشاعر أنه عاشها ذات حين، تماماً كما يعيش الحياة الحاضرة، وكذلك مشاهد الحيوات القادمة التي تتراءى له كأحلام. ربما من هنا كان أن عنون المترجم أشرف أبو زيد مختارته الشعرية، التي نقلها إلى العربية، بـ "ألف حياة وحياة"، ذلك أن مثل هذا النتاج الثّر، يحتاج إلى ألف حياةٍ وحياة لإنجازه. واليوم لا يُذكر الشعر الكوري المعاصر، إلا ويُذكر أميره كو أون. وفي هذا المجال يذكر أبو زيد: إذا زرت كوريا الجنوبية، وعشت فيها أياماً، وصعدت جبالها الخضراء والثلجية، وشممت هواءها البارد المُحمل بعبير المروج، وعطور الحدائق، وعبق الشاي، أو تنسمت نسيمها الدافئ الممزوج بروائح الفاكهة والبهارات، ودخلت معابدها فسكنت في رحاب بوذا، و تأملت لحظات في طقوس الرهبان، وراقبت طيور الغابات، وأزهار البساتين، وتعرفت إلى الناس، وإلى الكائنات الأخرى في البر والبحر والنهر والجزُر، تكون قد قرأت أشعار (كو أون)، لأن هذا الشاعر حيٌّ في هذا كله.

ذلك أن قصائد، ومعظم ما يكتبه أون، يأخذ هذا الجانب التأملي، تماماً ككاهنٍ سائح في الوديان والجبال، فلا تخلو قصيدة من مفردات هذه البرية، حتى إن قصيدة هذا الشاعر، تُبنى من مفارقتين، مقطع تأملي من الطبيعة، وآخر من الواقع الاجتماعي، ليأتي بالمفارقة الثالثة التي هي "بيت القصيد" كما نصف زبدة الشعر ولب القصيدة في العربية. هنا حيث تكاد الكتابة الشعرية تصيرُ موضوعاً متواتراً لذاتها، وهكذا يُقدم الشاعر قصيدته كوسيط، هنا أيضاً لا يمكن فهم العالم الداخلي للشاعر، أو ظواهر العالم في نشوئها، وتحولاتها إلا من خلال الوسيط الشعري الفعال في الوعي.

"ذات يومٍ ربيعيٍّ ممطر؛

نظرتُ إلى الخارج مرة، أو مرتين

أتساءلُ إن كان أحدٌ سوف يأتي..".

وحسب ناقل أشعار أون إلى العربية أشرف أبو زيد، فقد كتب "كو أون" قصائده في أشكالٍ مختلفة، ولمواضيع متعددة، فقصائده الأولى كانت معظمها على هيئة عباراتٍ قصيرة، ركزت على المفردات الموحية، وغالباً ما كان يستوحي الشعر من مشهدٍ طبيعي رآه، أو من شخصٍ لاقاه، أو من ذكرياتٍ صادفها، وفي شعره سيتعرفُ القارئ على قصيدة "الزن" التي هي تعبير عن لحظة تنوير للعقل، وتتكون من حفنة كلمات تخفي تحتها لحظة التأمل، هو شعرٌ يساعدُ رهبان زن البوذيين على ممارسة طقوسهم، وقد ازدهرت تلك القصائد في البلدان التي عاش فيها هؤلاء.

"لو استسلمتُ للرقاد، سأكونُ

مثل حيوان مريض،

يتوق إلى

الوقوف طيلة اليوم".

عدا ذلك يكتب "كو أون" قصائد مطولات، أو مختصرة، لكنها عفوية، تهتمُ باللغة، وذات حين كتب ملحمة من سبعة أجزاء عن الصراع الكوري للاستقلال عن اليابان، وعلى عكس الكثيرين لم تكن السياسة جزءاً من أعماله.

"في فناء بيت عائلةٍ فقيرة

يطلعُ القمرُ بهياً

حتى يفوق بياضه كعكة الأرز".

في نثرياته، يكتب "كو أون": منذ سنين مضت، كانت شعوب "الناندرثال" تحرقُ موتاها، و تُزيّن نعوشهم بغصونٍ خضراء، وسنابل أرجوانية، وأقحوان ذهبي متوج، وعراقيب مقدسة، وسواها ثم يضعون الجسد فوقها. هذا ما اكتُشف في كهوفٍ بالعراق. وكان جسدُ صبيٍّ من العصر الحجري قبل عشرين ألف عام، وقد اكتشفت في كهف بكوريا بمقاطعة تشونجي، وعلى حاجبيه أقحوانٍ متحجر. الأمر نفسه في مصر، حين عثروا على أكاليل زهور على رأس الفرعون الصبي توت عنخ آمون الذي مات قبل ثلاث آلاف وثلاثمئة سنة خلت. أنا على اقتناعٍ تام – يقول - بأن طقس تقديم الزهور هو لبُّ الشعر.

"بعد كلِّ ما قيل، وتم

لا تزال البحيرة

حيث كانت

بعد وداع أحدهم..".

يقول أون: منذ الأزل كان الناس يتلون صلواتهم بقلوبٍ ملؤها الشعر على موتاهم لكي يُبعثوا في العالم الآخر عالماً من الأزهار حيث تمثل الجنان الأسى الناشئ بين الحضور والغياب، وكما انحاز الشعر للإنسانية على مدى عشرات الآلاف من السنين، فقد أصبح بمرور الزمن أصدق ما يُعبّر عن كنه ذلك الزمن، إن بيتاً واحداً من الشّعر، بل وربما كلمة واحدة منه، قد تبعث فيَّ عشرة آلاف زهرة. هكذا تأتي القصيدة لدى أون كحلم، يقول: كانت أحلام أجنتها في الليلة الماضية، نهضت قصيدة في أحلامي هي من بنات أفكاره – يؤكد - بالقدر الذي تكون قصيدة سواه. "هذا الشخص المجهول ربما يكون كذلك هو أنا في حيواتٍ سابقة، وربما يكون شخصاً سأصبحه في علم مستقبل..!".

ورغم المسافة المكانية والزمنية بين كو أون وشاعر الفلاسفة العرب أبو العلاء المعري، فثمة ما يُلفت في التأمل الذي يكاد يكون القاسم المشترك لمجيء قصيدة مليئة بالحكمة ذاتها تقريباً. هنا لننظر إلى قصيدة "طمي" التي يذكر فيها:

"لو أنك إنسان، إنسان، أو حيوان،

فأنت بالتأكيد مخلوقٌ من طمي.

فاسمع جيّداً.. هل تسمع

خفق النبضات داخل الطمي

مرة كل شهر على الأقل

تمدد على الأرض واستمع جيداً

تسمع صوت جدّك يدق مثل جرس

داخل الطمي".

أما شاعرنا أبو العلاء المعري، فيطلب هو الآخر من المارين أمامه الهدوء في خبط أقدامهم، فما أديم هذه الأرض إلا من أجساد أسلافنا، و من ثم لنمشي الهوينى حتى لا نزعج ممن لاتزال نبضاتهم تخفق أديم التراب الذي منه ولدنا، وإليه نعود.

ولد كو أون سنة 1933 في جونسان بمقاطعة تشولا الشمالية لعائلة من الفلاحين في كوريا الجنوبية، وقد عانى أثناء الحرب الكورية سواء ضد الاحتلال، أو ضد الانفصال، مما دعاه ليصبح كاهناً بوذيّاً من طائفة الزن، وكان نشر أولى قصائده عام 1958، وبعدها بسنوات قليلة عاد إلى العالم مجدداً ليصدر أول كتبه سنة 1960، فيصبح صوت الصراع من أجل الحرية في السبعينيات والثمانينيات، وهو صراع أوقعه في براثن السجن مراراً، ومن ثم كان هذا النتاج الذي فاق الائة وخمسين كتاباً تُرجمت مؤخراً مختارت من أعماله إلى أكثر من أربع عشرة لغة، ومختارات "ألف حياةٍ وحياة" هي المجموعة الأولى في اللغة العربية.

"طائر الليل يغني بكل ما فيه من عنفوان،

بينما النجوم تضيء بكل ما مُنحت من قوة.

في عالم كهذا، استلقي بثقة،

داعياً النوم ليأتي".

----

الكتاب: ألف حياة وحياة

الكاتب: كو أون

المترجم: أشرف أبو زيد

الناشر: سلسلة كتب دبي الثقافية