في أواخر القرن التاسع عشر صدم قطار الحداثة الأوروبية، الذي كان يمضي بسرعة على سكة العالم الجديد، قطار الشرق العربي – الإسلامي المستسلم منذ قرون بعيدة لسكونية العقل، ووجوب النقل، والأجوبة المنجزة، فكان لا بد لهذا القطار أن يتحرك بفعل قوة الصدمة الحضارية "الغرب –استعمارية".

وكان من طبيعة هذه الحركة الناشئة أن تفجر الكثير من الأسئلة القلقة في قراءتها للتراث، وأن تمضي للنبش في صور الماضي والحاضر بعين ترنو إلى فجر جديد تتدفق أنواره على إيقاع تلك الأسئلة التي أصابت العقل والمجتمع برضة كبيرة امتدت عميقاً في الجذور وعلى السطح. لكن يبدو أن هذه القراءات قد ضلت طريقها أو تاهت وهي في لحظة المواجهة مع ذاتها التي ترزح تحت طبقات سميكة من السكونية بفعل الزمن.

تمكنت التجربة الغربية من إنجاز حداثتها، بعد القطيعة مع الفكر الغيبي، وقامت على عناصر ثلاثة "تقدير العقل، كرامة الإنسان، نسبية الأشياء"، وكانت عدة العقل الغربي في تلك الحداثة "العلم والثروة والتقنية". لكن الحداثة الغربية لم تقف هنا كما يقول د. غسان السيد في كتابه "القطيعة المعرفية والحداثة بين العقل الغربي والعقل العربي"، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك حيث "قام العقل الغربي بالانقلاب على مفهومات الحداثة للاعتقاد بأن العقل الذي قدسته الحداثة نصبته مكان الإرادة الإلهية وأصبح متعالياً على النقد"، مؤكداً أن هذه هي ميزة "العقل الغربي الذي لم يتوقف عن التحرك نحو الأمام، متنقلاً من مرحلة إلى أخرى يراها أكثر تطوراً".

وانتقل بعد ذلك "من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وخلخل اليقينيات كلها والأسس التي قامت عليها، وفضح المسكوت عنه، وقوّض السرديات الكبرى التي تحكمت بالفكر الغربي وأصبح الواقع دون نقاط ارتكاز ثابتة".

ويشير الكاتب إلى اثنين من فلاسفة ما بعد الحداثة وهما: جان بودريار "فيلسوف ما بعد الحداثة ومقوّضها" ونقده للعالم الذي يقدم الوعي جاهزاً "وهو وعي مبرمج ومعد مسبقاً باتجاه واحد مرسوم بدقة". والفيلسوف الثاني هو جيل دولوز الذي يؤكد "أن الثبات في هذا العالم وهم، وأن الوحدة التي يحلم بها البشر لا وجود لها. كما أن العقل ليس هو الذي يحرك الجمهور ويؤثر في الحشود وإنما الأهواء والعواطف والمصلحة".

وعلى الضفة الثانية يعيش العقل العربي "أزمة وجودية تجعله على هامش التاريخ" كما يرى المفكرون العرب، وغير العرب، ولكنهم يختلفون في تحديد أسباب عجز العقل العربي –الإسلامي عن تحقيق "حداثته الخاصة التي تفرضها الضرورة التاريخية".

ويؤكد الكاتب على أن الفكر العربي شهد محاولات عديدة للخروج من عنق الزجاجة في مراحل مختلفة كان آخرها "ما سمي بالنهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لكن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح بسبب العجز عن تحديد المشكلة الأساسية التي تعيق أي عملية تحديث في الفكر العربي" مع الإشارة دائماً إلى أن هذه النهضة جاءت بدافع خارجي وبتأثير الاتصال بالعالم الغربي.

يذهب الباحث السيد عميقاً في قراءة تجربة المفكر العربي محمد عابد الجابري من خلال مشروعه المهم الذي قدمه في كتبه "تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، الخطاب العرب". إذ يرى الجابري أن العقل العربي، المنتج للمعرفة، تكوَّن في عصر التدوين، أي سنة مئة واثنتين وأربعين للهجرة، منبهاً إلى الفارق الزمني بين الأحداث وتاريخ تدوينها، ومؤكداً أن "المعطيات والصراعات والتناقضات التي عرفها عصر التدوين والتي تشكل هويته التاريخية هي المسؤولة عن تعدد الحقول الأيديولوجية والنظم المعرفية الثقافية العربية، كما وأنها هي المسؤولة عن تعدد المقولات وصراعها في العقل العربي".

ويتحدث الجابري عن أنظمة ثلاثة تحكمت بالثقافة العربي منذ عصر التدوين: النظام المعرفي البياني، النظام المعرفي العرفاني، النظام المعرفي البرهاني. وقد هيمن النظام البياني من خلال الاشتغال بقضية "اللفظ والمعنى، أو الدال والمدلول" وكانت عملية التفكير في هذا العقل "محكومة دوماً بالأصل" ما جعل التفكير محصوراً فيه ولا يمكن تجاوزه، وينطلق منه ثم يعود إليه، ما يجعل العقل مقيداً بحدود مرسومة. ويركز الباحث السيد في دراسته لمشروع الجابري على العديد من النقاط المثيرة للجدل والتناقضات التي ظهرت هنا وهناك "الشيء المستغرب في بحث الجابري المهم أنه يعترف بأزمة العقل العربي الناتجة عن السياق التاريخي الذي تشكل فيه، ويتحدث بشيء من التفصيل عن الصراعات والأحقاد التي تعاني منها الأمة بسبب هذه الأزمة التي لا تزال تعصف بالعقل العربي. ومع ذلك لا يتردد في الدعوة إلى التجديد من داخل التراث".

في الفصل الأخير من الكتاب يستعيد الكاتب السيد محطات عدة عن رؤية المفكر والباحث الموسوعي جورج طرابيشي الذي يستخدم المنهج الفرويدي في تحليله للعديد من القراءات التي تناولت خطاب التراث.

ويتناول طرابيشي في دراساته النقدية مختلف التيارات الفكرية التي تناولت التراث بدءاً من التراث الماركسي والتيار القومي وانتهاء بالتيار العلمي البراغماتي والإبستمولوجي. ويختار من التيار الماركسي الباحث توفيق سلوم من خلال كتابه "نحو رؤية ماركسية للتراث". ويمثل للتيار القومي بفرعين: علماني يمثله زكي الأرسوزي، وإسلامي يمثله محمد عمارة. كما يمثل للأنموذج العلمي البراغماتي بزكي نجيب محمود. وينتهي بالحديث مطولاً عن مشروع الجابري عبر محطات متعددة وغنية في التحليل والنقد.

تأتي الأهمية الكبرى لهذا الكتاب من إعادته النظر والنقد لصخب الأسئلة الكبرى حول الحداثة العربية، وتقديم صورة نقدية للواقع الفكري والاجتماعي الذي أنجزت في سيرورته الصاعدة آنذاك، في الوقت الذي نشهد فيه اليوم تراجعاً ونكوصاً للعقل والفكر العربي على مستويات عدة تطرح ضرورة الاشتغال مجدداً على حداثة عربية أكثر وعياً وعمقاً.

----

الكتاب: القطيعة المعرفية والحداثة بين العقل الغربي والعقل العربي

الكاتب: د. غسان بديع السيد

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2024