يُعتير جوزيف كونراد (1857 – 1922) ذي الأصل البولندي، البريطاني الجنسية، هو النسخة الإنكليزية من أدباء البحر في العالم، وقد يكون أقدمهم ممن أوقفوا كامل نتاجهم الإبداعي على قصص وروايات هذا الفضاء الأزرق الذي كان على ما يبدو "صلباً" تحت قدميه، والذي شكّل استقراراً ما له مُقارنة باليابسة، ذلك ما يُردده "كونراد" في أكثر من منعطفٍ سردي على لسان بعض شخصياته، (وفجأة ابتهجتُ بأمنِ البحر مُقارنةً بعدم استقرار اليابسة).

فمن بين أكثر من عشر روايات، كانت جميعها تخوض في مناخات بحرية – ربما – باستنثاء روايتين فقط، كانتا بعيدتين عن فضاء البحر. ويعود اهتمام "كونراد" بأدب البحر ومغامراته إلى شغله الطويل على متن السفن، وبوظائف مختلفة، وقد وصل إلى رتبة الرُبّان لأكثر من سفينة، حيث إن بعض الأحداث والمغامرات التي تجري على ظهر السفينة من عوامل مناخية وهيجانات العاملين عليها، كانت كُلها تُشكّلُ له مُحرّضاً للكتابة، ليس بمعنى التسجيل الواقعي، وإنما كحافزٍ سردي لإيجاد المُعادل الإبداعي لهذه الشخصيات، لا سيما وأنه كان قد خبر جواناتهم ودواخلهم بالمعاشرة الطويلة وهو يُراقب ويتأمل في سلوكياتهم.

وتأتي رواية (الشريك الخفي) ترجمة إسكندر حبش، كإحدى مدوناته الروئية البحرية، التي لا يغفل فيها عن لعبته الفنية التي طالما اشتغل عليها في غير رواية، - وهي مسألة (القرين) -، لكن ليس بالطريقة التي تناولها باولو كويلو، حيث وجد القرين في النصف الضائع للمرء، الذي هو المرأة بالنسبة إلى الرجل، والرجل بالنسبة إلى المرأة، والذي عليهما أن يعيشا المعاناة حتى يلتقي كلٌّ منهما بنصفة الآخر، ومن ثم ليكتمل الكائن بنصفه الذي كان تائهاً وضائعاً ومن أجيالٍ مختلفة، وإنما (القرين) على شاكلة ما اعتبره النقّاد في رواية (الشريك الخفي) الذي تبع خطاً أدبيّاً تجد منبعه عند "ملفيل" كما في روايات: بينيتو سيرينو، بارتلبي، بيلي بود، وهو خط تجده أيضاً في رواية فلاديمير نابوكوف (الاحتقار)، وكما عند ديكنز، فإنّ الشخصيات الثانوية تبدو موصوفة هنا ببعض الخطوط الساخرة التي تكفي لصناعة "بورتريه" ما.

(القرين) عند كونراد؛ كائنٌ آخر، قد يكون رجلاً، وقد يكون امرأة، ذلك القرين – الآخر الذي تتماهى به حتى يصير (بورتريه) عنك إلى درجة الالتباس بين (الأنا والهو). ورواية (الشريك الخفي) تقوم بكاملها على مسألة (القرين) الذي يتماهى به رُبّان السفينة الشاب، والذي يعمل قُبطاناً لأول مرة. لقد اختار الخفارة الليلة على غير ما يفعله القباطنة، في أول يوم إبحار للسفينة البريطانية العائدة من موانئ ماليزيا. ففي انتظاره الطويل، يسمع نداءً من أحدهم على متن السفينة يُخبره أن ثمة ريحاً صارت كافية لانطلاق الرحلة. يعثر الربّان عند أسفل سلمٍ حبلي نسي عمال السفينة رفعه ما يُشبه الجثة العالقة به، ثم ليكتشف بعد تأمل طويل أنه كائن لا تزالُ فيه بقيةٌ من روح، فيرفعه على ظهر السفينة ويُخبئه في قمرته الخاصة، وهو الذي كان عازماً على مواصلة السباحة حتى الغرق، وهو أمرٌ مُختلفٌ تماماً عن الرغبة في الغرق.

وفي سرده لمغامرة اللاجئ إلى سفينته، حيث يتماهى به، يبدو وكأنه هو من عاش المغامرة معه، بل ربما هو نفسه من قام بكل الأحداث، "أدركتُ أنّ بديلي لم يكن قاتلاً متوحشاً، ولذلك لم أطلب منه الدخول في التفاصيل الدقيقة للحادث"؛ حيث سيلجأ "كونراد" إلى تقنيتين من تقنيات البلاغة المُضادة، رغم عدم إهماله البلاغة التقليدية لا سيما في وصفه الساحر "وقد استراحت يدي برقةٍ على الحاجز الحديدي لسطحِ السفينة، كما لو كانت تستلقي على كتفِ صديقٍ حميم"؛ حيث يلجأ إلى تقنيتي (الحذف والإضمار) على وجه التحديد، وهو الأمر الذي استطاع من خلاله "كونراد" تحويل (الشريك الخفي) كقصة إلى رواية رغم حجمها الصغير الذي لا يتجاوز المئة صفحة. فهي نصٌّ أطول من قصة قصيرة، وأقصر من رواية، وهو ما يُعطي الرواية غنى رمزياً كبيراً. إنها قصة هذه الأيام القليلة من الحياة السرية للشريكين، ومن ثمّ رحيل هذا الشريك عنه. وعلى ما يرى مُترجم الرواية، ففي رويات كونراد: "لورد جيم، قلب الظلام، والعميل السري" ثمة استعمالات سابقة لثيمة القرين، والإبهام الذي يفترضه عادةً تقابل هذين الشخصين، يبقى إبهاماً كاملاً، بيدَ أنه بخلاف ذلك في (الشريك الخفي)، حين يسمح القبطان لقرينه بالرحيل كي يتوه في الأرض، لأنه بذلك يستطيع في النهاية تخصيص نفسه بمهمته الحقيقية – قيادة السفينة- ليُلقي ظلالاً في طريق المعرفة الصامت والرد الدافئ، أي تلك الصلة الحميمة بأتم صورة لها التي تربط رجل البحر بأول سفينة يتولى قيادتها، "كنتُ أشعر أنّ تمزقي إلى نصفين، كان أخفّ وطأةً عندما أكون بصحبته".

(الشريك الخفي) التي يقول عنها "غافان يونغ" في كتابه (أشباح كونراد): "استوحى الروائي قصته هذه من حادثة حقيقية، وهي جريمة قتل نفذّها نائب ربّان سفينة "كاتي – سارك" عام 1880، وذهب ضحيتها أحد البحارة، بيدَ أن كونراد في كتابه هذا يُقلل من إحساس نائبه – ليغات- بعقد الذنب". صحيح أن الأخير لم يستطع القيام بواجباته كضابط، ولم يعد يرى في نفسه يضطلع بأي مسؤولية، إذ لم ينقذ حتى سفينته، كما أن الجرم وقع على القبطان الذي استقبل ليغات على سفينته التي كانت تُبحر قريبة من السفينة المنكوبة، والذي أخفاه عن أعين كل المُشتغلين على متنها، حتى استطاع مؤخراً تهريبه إلى جزيرة قريبة بعد أن حوّل مسار السفينة لتُبحر بين الجزر رغم احتمالات الجنوح الخطيرة، لكنه غامر فقط لأنه وجد نفسه في ذلك الهارب القاتل، "سألتُ نفسي: هل يُمكنه ألا يكون ظاهراً إلا لعيني فقظ؟ كنتُ كمن يُلاحقه شبح". وقد وضع موضع الخطر ليس السفينة فقط، وإنما أيضاً حياة الطاقم بأسره. قد لا ينتبه القرين هنا للتشابه بينه وبين الرُبّان الذي يُلفتُه الأمر حد التماهي لا سيما عندما منحه "منامته" المُخططة ليرتديها، وهو ما التبس حتى على عامل المطبخ على ظهر السفينة، بمعنى أن (كونراد – الربان السارد) كان في حاجة إلى أن يُلبس القرين كلَّ ثيابه كي يُحدث هذا التشابه. وهنا نُشير إلى أنه في القصة الحقيقية، انتحر القبطان بعد أن غطى هروب نائبه الذي حُكم عليه فيما بعد بالسجن لمدة سبع سنوات.

تقنية أخرى يلجأ إليها كونراد في سرده، وهي تقنية الحذف، بمعنى الإضمار، حيث يجعل من القارئ شريكاً في الكتابة، الذي يضع على عاتقه ملء الفراغات في النص، ذلك أن كونراد كثيراً ما يهرب من التفاصيل ووضع الخواتيم، وما على القارئ سوى الاستنتاج ووضع الخواتيم التي تُناسب ذهنيته، فهو لم يذكر شيئاً عن "ليغات" بعد نجاحه في الهروب على سبيل المثال، هل عاش على تلك الجزيرة، أما تعرف على صيادين عليها ونقلوه معهم إلى مكانٍ أكثر آماناً، وغير ذلك الكثير من احتمالات الخاتمة.

----

الكتاب: الشريك الخفي

الكاتب: جوزيف كونراد

ترجمة: إسكندر حبش

الناشر: دار دلمون الجديدة، دمشق