"إذا كنا نستطيع بلوغ الهدف باللاعنف وبالحقيقة، فإنني أنتظر بفارغ الصبر تحقيق ذلك. وإذا كنا لا نستطيع بلوغه إلا بالتخلي عن اللاعنف وعن الحقيقة فيلزمني صبر بلا حدود. هذان الموقفان منبثقان عن إيماني الراسخ بسيادة اللاعنف والحقيقة".

في منظور المهاتما غاندي تشكل ثنائية "اللاعنف والحقيقة" ثابتين رئيسيين تربط بينهما علاقة صميمية في إطار المنظومة الفكرية والقيمية التي حكمت "الثائر المتمرد" عبر مسيرته الكفاحية ضد المستعمر وأشكال الاضطهاد المختلفة، ليس في الهند وحدها بل على المستوى العالم كله.

في كتابه "غاندي المتمرد – ملحمة مسيرة الملح" يشير الباحث الفرنسي جان ماري مولر إلى أن غاندي لم يبتكر سياسة اللاعنف، بل هي ترجمة لمصطلح "أهيمسا" باللغة السنسكريتية والمستخدم في النصوص الفلسفية للأدبيات الهندوسية والجانية والبوذية. و"الأهيمسا" تعني في دلالتها العميقة "السيطرة على رغبة العنف في الإنسان والتخلي عنها"، لكن غاندي يدفع بالمصطلح إلى دلالة أوسع بقوله "اللاعنف التام هو الغياب التام لسوء النية تجاه كل حي". كما يعبر عن اللاعنف بشكله الفاعل من خلال حب الخير لكل ما هو حي، إنه الحب الخالص. ذلك أن كلمة "لاعنف" حاسمة لأنها تعبر عن رفض جميع عمليات الشرعنة التي تجعل العنف حقاً للإنسان، ولأنها تتيح بذلك نزع الشرعية عنه. هذا الرفض يفتح الطريق إلى حب الخير للإنسان الآخر. وعلى المستوى الإنساني فإن اللاعنف يرد الاعتبار للبراءة كفضيلة الإنسان القوي وكحكمة الإنسان العادل. كما أن اختيار اللاعنف يعني "إرادة احترام جميع الكائنات الحية".

لكن ما سبق لا يعني أن غاندي كان لا يعي أن "اللاعنف" ليس أمراً مطلقاً بل إنه نسبي ومرتبط بالواقع، وهو نظرية كأية نظرية أخرى، إنما من المهم "السعي للاقتراب منه في كل لحظة من حياتنا".

إن الملح الذي اتخذ منه غاندي منارة لبداية ثورته السلمية يشكل مفترق طرق نحو التحرر والحرية. ففي صبيحة السادس من نيسان عام 1930 "اقترب غاندي من ساحل المحيط وغطس ثم عاد إلى الشاطئ ليجمع قليلاً من الملح الذي تركته الأمواج. ابتداء من تلك اللحظة أصبح متمرداً على الإمبراطورية البريطانية. وأطلق عندئذ أمر العصيان المدني لجميع الهنود طالباً منهم التزود غير القانوني بالملح". وذلك بسبب الضريبة الباهظة التي فرضها المستعمر على الملح الهندي نفسه. بعد ذلك بثلاثة أيام، وفي رسالة إلى الأمة، أكد غاندي: "اليوم يُرمز إلى كل شرف الهند بحفنة ملح في يد المقاومين اللاعنفيين. يمكن لقبضة اليد التي تتناول هذا الملح أن تكسر، ولكن هذا الملح لن يُسلّم بطريقة إرادية".

إن ثورة اللاعنف بالنسبة إلى غاندي، والمبنية على رفض النفاق والخداع، تتخذ من قوة الإرادة وصلابتها جسراً للعبور إلى القيم التي تؤكد حق الإنسان في حريته، كما أشار خلال خطابه بالجماهير التي جاءت لاستقباله في باريس مع مجموعة من الهنود في السابع من كانون الأول عام 1931: "فالكذب والنفاق والخداع لا تمت بصلة إلى الطرق التي نحاول استخدامها في بلاد الهند للحصول على حريتنا، فكل شيء يتم علناً. في قاموس إنسان يجعل الحقيقة واللاعنف أساس حياته ما من مكان لكلمتي الخوف واليأس".

لكن على الضفة الأخرى كانت السياسة الفرنسية تميل إلى تأكيد مصلحة الفرنسيين في بقاء الإنكليز، المصرين على المضي بسياستهم الاستعمارية، في الهند عبر إعلان غير مباشر عن تحالف استعماري لا يعير المبادئ الإنسانية والتحررية أية قيمة. فقد كتب لويس بيرتران عضو الأكاديمية الفرنسية في صحيفة الفيغارو: "لا بد أن أصدقاءنا الإنكليز الطيبين غير مسرورين تحديداً في هذه الهند التي تفسدها دعاية ذلك العجوز المجنون الذي هو غاندي. فلنأمل أن يبقوا فيها من أجلنا أولاً ومن أجل مستعمرتنا كوشين الصينية- الهند الصينية- ثم من أجلهم، ثم من أجل السكان الأصليين أيضاً".

مسيرة غاندي الكفاحية، مسيرة محفوفة بالألم والعذاب والصبر، لكن روحه العظيمة في "جسده الهزيل" لم يكن أي شيء قادراً على منعها من التحليق عالياً في فضاء الحرية. وها هي مادلين سلاد، تكتب بعد اعتقاله عام 1930، في مجلة الهند الفتية: "يمكن القبض على جسمه الضعيف وزجه في السجن. يمكن للجدران الثخينة لزنزانته أن تكتم صوته النقي، لكن لا يمكن خنق روحه العظيمة، فتألقه سيتخطى الحواجز المادية. وكلما عملوا على سحقه تألق تألقاً شديداً مضيئاً الهند بل العالم أجمع".

ويؤكد المؤلف أن لطف غاندي كان أقوى من العنف: "لقد استعاض عن طموح كبار الفاتحين بالتواضع، واستعاض عن قوتهم بلطف أقوى من العنف. هناك مسؤولية كبيرة تلقي بثقلها على كتفيه النحيلتين".

ويرسم جواهر لال نهرو صورة لا تخلو من شاعرية عميقة في وصفه لصديقه الكبير: "عندما كان يدخل غرفة كانت نسمة هواء عليل تلطف الجو".

المهاتما لقب يعني "الروح العظيمة"، وغاندي، بفكره وروحه، ليس فرداً بل أمة اعتنقت –معه وبه- قيمة إنسانية قلّ مثيلها في التاريخ البشري. وهذا هو الإنسان الذي يودّ هذا الكتاب كشف أغواره العميقة بانتمائها إلى روح الإنسانية التي تغنى بها المفكرون والفلاسفة والأنبياء. رحلة توثيقية غنية في دلالاتها وإشاراتها وصلابتها في الدفاع عن حق الإنسان في وجوده وحريته.

----

الكتاب: غاندي المتمرد – ملحمة مسيرة الملح

الكاتب: جان ماري مولر

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

الناشر: دار معابر، 2011