سجّل الدكتور نضال الصالح ذات حين، ووثق صدور أكثر من خمسمئة وتسع وعشرين مجموعة قصصية خلال هذه النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن الماضي في سورية وحدها، وذلك في كتابه "قص التسعينيات" سنة 2005.

وها هو يقدم كتابه النقدي "قبل فوات الحكاية – دراسات في القصة العربية القصيرة"، وخلاله يتلمس الصالح برؤية جديدة ملامح هذا المشهد الحكائي، ليقدم من خلال هذا الجزء بما يشي بـ "الكل"، وذلك في ثلاثة مداخل، الأول: إلى القصة القصيرة في سورية، والثاني: إلى مثيلتها في الخليج العربي، والثالث كان توأمهما في المغرب العربي.

في المدخل الأول "القصة القصيرة في سورية" يحصر الباحث نشأة فن القصة في سورية، الذي يبدأ – كما يجمع عليه الباحثون والنقاد – من مجموعة الكاتب السوري علي خُلقي "ربيع وخريف" – 1931 ، كأول مجموعة قصصية سورية، ثمّ ما لبث النتاج القصصي السوري أن تتابع بعدها راسماً خطاً بيانياً متصاعداً بلغ ذروته في العقد الأخير من القرن العشرين. ومن تلك "النشأة" التي تبدأ من بداية الثلاثينيات إلى نهاية الأربعينيات، وبعد ذلك، يتلمس الصالح الكثير من الانعطافات في مسيرة تطور القصة السورية، مراحل حاول الباحث تحقيبها بـ "مرحلة التأسيس: الخمسينيات، مرحلة التأصيل: الستينيات، مرحلة التجريب: السبعينيات، ومرحلة التمثّل وإعادة الإنتاج: من بداية الثمانينيات إلى نهاية التسعينيات".

وكانت مرحلة النشأة صدور ست مجموعات قصصية لستة قاصين، كان من أبرز سماتها، صلة معظمها بالواقع المحلي، وصدورها عنه، وتعريتها لأمراض ذلك الواقع، وعلله الاجتماعية، وتقاليده المعوقة للتقدم، ثمّ خفوت صوت الوعظ، والتأسيس لكتابة قصصية قيد التكوّن على المستوى الفني. فيما شهد عقد الأربعينيات صدور سبع عسرة مجموعة قصصية لثلاثة عشر قاصاً وقاصة، وقد عنيت تلك المجموعات بمثيرات الواقع وتحولاته، وبدت جميعاً أيضاً، منعطفاً في تاريخ الحركة القصصية السورية على المستوى الفني. فيما وجد الباحث أنّ سنوات الخمسينات في سورية – التي هي مرحلة التأسيس - تُمثّل مرحلة التحولات الكبرى على غير مستوى، كان من أهمّها على المستوى الثقافي تُقدّم فن القصة تقدماً لافتاً للنظر عبر ثلاث علامات معاً: عدد المجموعات القصصية الصادرة خلاله، والذي بلغ أربعاً وسبعين مجموعة لتسعة وثلاثين قاصاً وقاصة، والتطوّر الفني الذي حققه كتّاب ذلك العقد، والاستجابة للتيارات الفكرية والفنية الوافدة بأطيافها المختلفة: كالوجودية، والماركسية، والقومية، والواقعية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية، وسوى ذلك. وعامة، فإنّ نتاج الخمسينيات مثّل ما يُشبه القطيعة مع منجز العقدين السابقين، فلم يعد يقف عند حدود تصوير الواقع تصويراً آلياً، بل تجاوز ذلك إلى الغوص في الجوهري، وإلى استكناه مثيراته وتحولاته، ثم إلى تحرره من الوعظ والإرشاد إلى الوعي والتنوير، فإلى الاهتمام بطبقات المجتمع كافة. وقدمت سنوات الخمسينيات، بالإضافة إلى عدد من الأصوات التي ظهرت في العقود السابقة، عدداً مهماً من الأصوات الجديدة التي مثّل الكثير منها، ولا يزال، علامات فارقة في تجربة القص السورية. فيما مثّل عقد الستينيات مرحلة التأصيل لتلك التجربة، أي لكتابة قصصية دالة على نفسها فحسب من جهة، ولا تُعيد إنتاج ما سبقها من جهة ثانية، وقد صدرت خلال هذه المرحلة تسع وسبعون مجموعة قصصية لنحو خمسة وخمسين قاصاً وقاصة، التي كان من أبرزها: زكريا تامر، وحيدر حيدر، وهاني الراهب. وأما مرحلة التجريب خلال عقد السبعينيات، فقد صدرت خلالها مئة وأربعاً وستين مجموعة قصصية، لما يزيد على مئة قاص وقاصة، وكان عدد منهم بدأ الكتابة والنشر في عقود سابقة، ومن الأصوات الجديدة كان: حسن م يوسف، وليد معماري، رياض عصمت. وأبرز ما اتسم به ذلك العقد وفرة النتاج القصصي على المستوى الكمي، وظهور ما تمّ الاصطلاح عليه تعبير "الحساسية الأدبية الجديدة" التي بلغت القصة القصيرة في سورية معها مرحلة عالية من التجريب في: التخييل، والبناء، والتراسل بين الأجناس، والترميز، والاستجابة لتحولات الفن ومذاهبه وتياراته الحديثة، على الرغم من التصاقها الشديد بالواقع وصدورها عنه. ثم كانت مرحلة التمثل وإعادة الإنتاج في مرحلة الثمانينيات، فقد شكّل الكتاب الذين ظهروا خلالها إضافة جديدة إلى تجربة القص السورية، غير أن معظم نتاج ذلك العقد لم يستطع التحرر من عباءة السبعينيات التي ظلت تمارس نفوذها فيه. صدر خلالها ما يزيد على مئتي مجموعة قصصية سورية، لنحو مئة قاص وقاصة، أبرزهم: إبراهيم صموئيل، جميل حتمل، وأنيس إبراهيم.

وفي مدخله على القصة القصيرة في الخليج العربي، يجد الباحث أن تاريخ النشأة في هذه المنطقة أشبه بالمغامرة، فعلى الرغم من وحدة الجغرافيا والهوية بين الأجزاء المكونة لهذه المنطقة، فإنّ ثمة تنازعاً بين مؤرخي الأدب الحديث ونقاده من أبنائها خاصة على نسبة نشأة الأجناس الأدبية الحديثة إلى الدولة التي ينتمي إليها كل منهم من جهة، وضآلة القرائن الكافية والدالة على صواب نتائجهم ودقتها في هذا المجال من جهة ثانية، ومهما يكن من أمر ذلك، فإن ثمة قاسماً مشتركاً يوحد بين جهود أولئك جميعاً، هو القول بنشأة المحاولات القصصية الأولى، شأن معظم المحاولات القصصية العربية الأولى، في أحضان الصحافة التي عرفتها بعض دول الخليج منذ بداية الثلاثينيات، والتي كان لها الدور الأول في تعريف أبناء تلك الدول بفن القص بمعناه الحديث، وفي تمكين الكتاّب منهم من نشر محاولاتهم الأولى فيها أيضاً. ولعلّ أقدم الصحف التي عرفتها المنطقة في وقت مبكر نسبياً من القرن العشرين هي صحيفة "الكويت" التي صدرت سنة 1928، والتي ضمت أول محاولة قصصية لكاتب كويتي هو خالد الفرج، وقد تلا تلك المحاولة محاولات جديدة بعد عقدين من الزمن، وفي غير صحيفة مما صدر في عقدي الأربعينيات والخمسينيات، مثال: "البعثة" و"كاظمة" اللتان أسهمتا بدور مميز في احتضان المحاولات الإبداعية لغير قاص، منهم: خالد خلف، جاسم القطامي، يوسف الشايجي، وابتسام عبد اللطيف، وإلى الآن فإن ثمة ما يُشبه الاتفاق بين معظم مؤرخي القصة الكويتية على أن مجموعة فاضل خلف "أحلام الشباب" التي صدرت سنة 1954 هي أول مجموعة قصصية لأديب كويتي، وجاءت سنوات السبعينيات، التي يعدها الناقد الصالح البداية الحقيقية للقص الفني في الكويت، التي تبعت تطورها خلال عقد الثمانينيات بظهور أصوات جديدة لم يكن عددٌ منها إضافة إلى التجربة على مستوى الكم، بل إضافة على مستوى النوع. ولم يكن عقد التسعينيات أقل أهمية مما سبقه، فبالإضافة إلى عدد من الأصوات التي ظهرت في عقود سابقة وتابع أصحابها الكتابة والنشر في ذلك العقد، زخر الأخير بأصوات جديدة مميزة. وبتتبع مراحل نشأة القصة في البحرين وتطورها يخلص الصالح إلى أن أبرز الصحف والمجلات التي كان لها دور مهم في نشأة الفن القصصي في ذلك الجزء من الجغرافيا العربية، وفي تطوره بآن، في الفترة الممتدة بين عقدي الثلاثينيات والخمسينيات، هي: "البحرين، صوت البحرين، القافلة، الوطن، الخميلة، الميزان، والشعلة". وعلى الرغم من الدور المهم الذي نهضت به تلك الأصوات في التأسيس لفن قصصي في البحرين، فإنه لا يمكن الحديث عن نتاج قصصي بحريني على مستوى الأعمال الصادرة في مجموعات، قبل عقد السبعينيات الذي أرهص بكتابة قصصية تكاد تكون نسيجاً وحدها، ولا سيما على مستوى التجريب. وبتتبع الدراسات التي عنيت بالقص الإماراتي، وبهذا الأخير يخلص الصالح إلى أن معظم الأصوات التي أرهصت بما يمكن عدّه تجربة قصصية في الإمارات، هي تلك التي ظهرت خلال عقد السبعينيات، والتي وجدت حاضنتها الأولى في الصحف والمجلات التي نشأت آنذاك، ومن أبرز تلك الأصوات: عبد العزيز الشرهان، مريم جمعة فرج، علي عبيد علي، أمينة عبد الله، مظفر الحاج مظفر، عبد الحميد أحمد، ومحمد علي المر. ومهما يكن من أمر القيمة الفنية لنتاج أولئك، وسواهم ممن أسس للتجربة، وأصّل لها بآن، فإن نهاية السبعينيات وعقد الثمانينيات يمثلان منعطفاً حقيقياً في تطور التجربة وتحولاتها، بفعل ظهور أصوات جديدة تمكنت، في فترة قصيرة نسبياً، من تأكيد حضورها في المشهد القصصي العربي عامة، أمثال: محمد المر الذي يُمثل إلى الآن أغزر كتّاب القصة الإماراتية، والذي تتميز تجربته عن سواه من أولئك الكتاب في ارتهان معظمها للقص التقليدي، وفي إلحاحها على العلاقات العاطفية، ثم في رصدها لتحولات المجتمع الإماراتي عبر رؤية محددة هي رؤية القاص وحده، ومن أمثالها: سلمى مطر سيف، محمد محسن الحربي، ليلى أحمد، ناصر جبران، وباسمة محمد يونس. ولم يكن عقد التسعينيات أقل أهمية مما سبقه، إذ قدم مهمة إلى التجربة، أمثال: ظبية خميس، علي الحميري، فاطمة الهديدي، منصور عبد الرحمن، ونعيمة المر. كذلك احتضنت الصحافة الصادرة في قطر خلال سنوات الستينيات والسبعينيات المحاولات الأولى لكتاب القصة القطرية، وكان من أبرز الصحف آنذاك: "أخبار نفط قطر، الدوحة، العروبة، الخليج، الجديد، العهد، الجوهرة، العرب، والراية". ولعلّ قصة عيسى منصور "اليتيم" التي نُشرت في العدد الأول في مجلة "أخبار نفط قطر" الصادرة سنة 1960، أول نص قصصي لكاتب قطري، وتُعد مجلة "العروبة" أكثر الدوريات الصادرة في السبعينيات حفاوة بالمحاولات القصصية، وبقيت كذلك على نفس الإيقاع طوال عقد الثمانينيات، حتى عقد التسعينيات الذي يمكن وصفه أنه يُمثل مشهداً قصصياً في قطر.

وإذا كان الباحث أخذ مقاطع عرضانية لقراءة المشهد القصصي في كل من سورية، والخليج، نراه يأخذ مقاطع طولانية للقراءة في كل من مصر، الذي يُركز خلاله على صوتين قصصيين فقط لكل من حسن البنداري، ومحمد همام فكري، وثلاثة أصوات من فلسطين، ثم يعود في فصل آخر لتناول أربعة أصوات من الكويت، وصوت قصصي من قطر، وصوت قصصي آخر من العراق، وصوت نسوي من الأردن، ومن ثم ليصل إلى أنه وبعد نحو قرن من مغامرات الكتابة القصصية العربية، وتحولاتها، لما يزل المشهد القصصي العربي، ونقده مثخنين بوهم القصة القصيرة هي حكاية في البدء والمنتهى، حكاية ما خبره القاص بنفسه، أو كان شاهداً عليه، أو سمع عنه، أو لما يزل عدد غير قليل ممن تمّ تصدير نتاجهم للقارئ العربي بوصفه قصاً إلى سارد حكاية أكثر منه قاصاً، لكأن المغامرات والتحولات لم تكن تعني أحداً سوى نفسها، وليست بالضرورة مرجعاً لكتابة تنتسب إلى فن القص قبل انتسابها إلى الحكاية.

----

الكتاب: قبل فوات الحكاية، دراسات في القصة العربية القصيرة

الكاتب: د. نضال الصالح

الناشر اتحاد الكتاب العرب، دمشق