على مدى مئتي صفحة، أو أكثر بقليل، يُحاول الشاعر والمترجم السوري ثائر زين الدين في كتابه "أمل دنقل دراسة ومختارات" أن يرسم "بورتريه" لشاعرٍ عربي انجدلت في قصيدته هموم كثيرة، أثارت حينها – باعتباره من جيل الريادة الثاني من شعراء القصيدة العربية المُعاصرة- الكثير من الجدل، جدلٌ لم يهدأ يوماً حتى بعد رحيله الذي مضى عليه اليوم أربع وثلاثون سنة.

ذلك الشاعر هو الشاعر المصري أمل دنقل، الذي أعادَ زين الدين الحفر في الكثير من بواطن قصيدته، مُبيناً كنهها وشواغلها، ومرجعياتها، مُقارباً كل ذلك بقراءة نقدية لقصيدة دنقل، ومُعززاً كل ذلك بمختارات من تنويعات قصائده انتقاها من مجموعاته الست: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة- 1969، تعليق على ما حدث- 1971، مقتل القمر- 1974، العهد الآتي- 1975، أقوال جديدة عن حرب البسوس- 1981، وأوراق الغرفة 8-1983، حيث يبدو الشاعر في سباقٍ محموم مع الزمن ليتم قوله الشعري، فمن خلال قراءة تواريخ إصدارات المجموعات الشعرية، يتبين أنها أنجزت خلال مدة زمنية لا تتجاوز العقد والنصف من السنين، قبل أن يُنهي معركته مع مرضٍ عُضال، أو كما يصف الشاعر أحمد عبد المُعطي حجازي تلك الحالة: كان بإمكان زواره وعائديه أن يروا صراعه مع الموت رأي العين؛ صراع بين مُتكافئين؛ الموت والشعر، وفي اللحظة التي وقع فيها الجسد بكامله بين مخالب الوحش، خرج أمل دنقل من الصراع منتصراً. لقد أصبح صوتاً محضاً، صوتاً عظيماً سوف يتردد أصفى وأنقى من أي وقتٍ مضى.

"هذا الذي يُجادلون فيه

قولي لهم عن أمه، ومن أبوه

أنت وأنا.

حين أنجنبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت!

لكنه ما مات

عاد إلينا عنفوان وذكريات".

حيث يرى الدارس إن دنقل في كل ما ضمته المجموعات السابقة، وفي سلوكه الشخصي الحاد، ولكن الصادق مع نفسه أولاً، ومن ثم مع الآخرين، يشد إليه اهتمام القراء والدارسين؛ ربما لأن تلك النصوص جاءت من رحم مُعاناة الناس ومرتبطة بهمومهم الاجتماعية والسياسية والإنسانية، فالشاعر كان حريصاً على توصيل نتاجه للناس، رافضاً التخويض في الغموض الذي يُرادُ به مُداراة الموقف الاجتماعي للشاعر والتحايل عليه، وهو كما كانت تروي عنه عبلة الرويني: كان يرى أن على الشاعر أن ينهض بمسؤوليتين، أو دورين في آنٍ واحد: دور فني بأن يكون شاعراً، ودور وطني بأن يوظف فنه لخدمة القضية الوطنية، لكن ليس عن طريق الشعارات والصراخ، بل على الشاعر أن يلعب دور المُفكر أيضاً. عوامل كثيرة أسهمت في بناء هذه الشخصية منها: الفقر الشديد، مثال الكائن بلا مأوى، متنقل في غرف الأصدقاء، لا يستطيع تغيير ملابسه، ومن هذه العوامل إحساسه بالفقد، ومرارة اليتم والظلم والضياع:

"كان يسكن قلبي

وأسكن غرفته

نتقاسم نصف السرير،

ونصف الرغيف

ونصف اللفافة

والكتب المُستعارة".

من هنا كان الشعر في حياته، يُشكل العامل الأهم في منحه توازناً مستقراً؛ كان الشعر بديل الانتحار في عالمٍ مُرعب، بل كان الشعر مصدر قوته الحقيقية، ولهذا لن يتخلى عن الكتابة حتى في أشد حالات المرض قسوةً على جسده، وقصائد "الغرفة رقم 8" تشهد على كل هذا الشغف في معهد علاج السرطان بالقاهرة.

ذلك بعض مما وجده زين الدين من ملامح أمل دنقل الإنسانية، أما السمات الفنية التي وجدها في شعره؛ فكانت كثيرة منها: استلهامه التراث واستخدام عناصره الهائلة كأدوات تعبيرية، واشتغاله الخاص على الصورة الشعرية، والبنية الإيقاعية، ومعمار القصيدة، وتشكيلها وما إلى ذلك.

"أوهموني بأن السرير سريري

أن قارب رعْ

سوف يحملني عبر نهر الأفاعي

لأولد في الصبح ثانية إن سطع".

ذلك أن من أهم ميزات شعر أمل دنقل هو ذلك الاستلهام العميق للتراث بمختلف أنواعه، وتنوع مصادره؛ فتارةً يلجأ إلى الموروث الأدبي (المتنبي، أبو النواس، المهلهل، الخنساء..) وتارة إلى الموروث الأسطوري (رع، إيزيس، زرقاء اليمامة، أوديب..) وأحياناً يسترفد الموروث الديني (الأشعري، الحسين، خالد، المزامير، العشاء الأخير..) كما يحضر بقوة الموروث التاريخي (صقر قريش، الحجاج، المعتصم، شجرة الدر، سيف الدولة الحمداني، قطر الندى..) ولا يغيب الموروث الشعبي أو الفلكلوري (السير الشعبية: الزير سالم، ألف ليلة وليلة..). وغالباً ما تتداخل هذه المصادر في ذات النص، حيث يوظف العناصر والنصوص التراثية بحيث تحمل شحناتها الهائلة وتصبها في النص الجديد بطرائق ووسائل فنية تجعل العناصر والنصوص القادمة من التراث طيعة قابلة للدخول في النصوص الجديدة، ويُسمي الباحث مثل هذه الحالة تناصاً أو تعالقاً.

ومن الملامح التي أشار إليها زين الدين؛ أثر الفن التشكيلي في شعر دنقل، حيث يكتشف في نصه مصوراً نادراً في غير قصيدة تارة تأتي اللوحة ملونة، وأخرى مرسومة بأقلام الفحم.

"في غرفة العمليات،

كان نقاب الأطباء أبيض،

لون المعاطف أبيض،

تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات، الملاءات،

لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن،

قرص المنوم، أنبوبة المصل،

كوب اللبن.

كل هذا يشيع بقلبي الوهن.

كل هذا البياض يُذكرني بالكفن!

فلماذا إذا مت

يأتي المعزون متشحين.

----

الكتاب: أمل دنقل دراسة ومختارات

الكاتب: د. ثائر زين الدين

الناشر: دار الينابيع