يتناول الباحث السوري محمد جمعة حمادة، على غير عادته هذه المرة، بل على غير عادة الكثير من الكُتاب والباحثين، تجربة تشكيلية غير مُكرسة، أو مُحتفى بها كما يليق نقدياً وإعلامياً، وهي تجربة الفنان التشكيلي محمود الساجر الذي يُقدم نتاجه الفني منذ عقود دون جلبة، وبهدوء ريفي اعتاد الإيقاعات البطيئة المحسوبة الخطوات.
أمسى في رصيد حمادة البحثي أكثر من اثني عشر كتاباً، خصص مُعظمها لتناول تجارب إبداعية تذهب باتجاه السيرة الذاتية والخوض في الحياة الخاصة للمبدع – رُبما – ليكشف عن بواعث الإبداع وأثرها في التجربة الإبداعية، وله في ذلك كتب مثل: كمال ناصر شاعراً ومناضلاً، بيدروس نيرسيس كوند راجيان، فاتح المدرس جمر تحت رماد- رحلة الفن والحياة، وغيرها الكثير. لكنه في كتاب "محمود الساجر – تعبيرية بلا ضفاف" يذهب بعيداً في تناول السيرة الشخصية على حساب التجربة الإبداعية، رغم هدوء "الدراما" في حياة الساجر وبساطة العيش بين بساتين قرية السواجرة في ريف منبج، ومدينة منبج نفسها، وأخيراً الاستقرار في مدينة حلب بعد رحلة دراسة في دمشق وموسكو.
وجد الباحث حمادة أن تجربة محمود الساجر مُفعمة بتأثير كبير لفنانين عرفهم عن قرب، وإن كانت استقرت على ما يُميزها فيما بعد، فهو إلى اليوم لا يزال يتذكر بعض لوحات الفنان عمر حمدي في السبعينيات بألوانها الشرقية وواقعيتها المُدهشة وتعابيرها الحاضرة، كما يتذكر لوحة للفنان فاتح المُدرّس كانت موجودة عند سعيد حوارنية في تدرجاتها اللونية وإيقاعاتها الحمراء وقسوة خطوطها – قبلة يهوذا- وعن أعماله لا سيما ما اشتغل فيها على الوجوه، فثمة تأثيرات من الفنان مروان قصاب باشي بالتعبير والانفعال وليس في التكنيك. ذلك أن الفنان الأكاديمي عندما يتأثر بتجربة، يُعيد قراءتها وصياغاتها، ويُقدم لوحة فيها رائحة الآخر ورياحه. ومحمود الساجر لا يزال يصرّ على فتح نوافذه على كلّ الاتجاهات الفنية والتشكيلية المُعاصرة التي تحمل عنصر المُفاجأة والدهشة.
وعن اتجاه الساجر للشغل في مسألة الوجوه والبورتريه، يتوسع الباحث طويلاً في تحليل تلك الوجوه التي يُقدمها سواء بالقراءة الذاتية أو بالحوار مع الفنان مُباشرةً، فقد تقرأ الوجوه على أنها أقنعة، يختبئُ الفنان وراءها، وقد تكون تحويرات تشكيلية لكائنات جميلة لم يبق منها سوى تعبيرات غامضة، مساحات لونية وإضاءات مُتباينة، إيحاءات وتشكيلات بصرية جمالية، وصور من ذاكرة محترقة. يذكر الساجر نفسه: في مرحلة من المراحل، كانت هناك ضرورة لاستعراض المهارات الفردية، والقدرة العالية في رسم البورتريه – الصورة الشخصية – مع مُراعاة الحالة التعبيرية، وتأتي التعبيرية بحلولها وتحويراتها لما تحمله من قيم وتفاصيل إنسانية، قادرة على نقل الأحاسيس والعوامل الداخلية الإنسانية، الوجوه هي التشكيل الأقرب والأدق تعبيراً، والأقوى تأثيراً في الآخر. كما تبدو الذاكرة عند الساجر، ليست مكانية رغم التأثير البعيد للمكان على تجربته الفنية، غير أنها تبدت ذاكرة انعتاق وتحرر تشدّه إلى عالمٍ أثير، ومحوّلة المكان إلى نوع آخر من الزمان، على أحداث وتواريخ، على رحيل ووقائع ومُصادفات وأحلام تتجاوز الأمكنة. حيث تنتقل الذاكرة بهيئة الزمان، والضوء واللون في مكان لا وطن لهذه العمارة، فالأرض كلها وطنٌ لها. بمعنى أنّ الأمكنة هنا ليست جغرافيا، وإنما لغة في التخييل والحنين والتذكر.
تميزت لوحات الساجر باتخاذها من التعبيرية منهجاً لها، حيث عالجت في مُعظمها مُعاناة الإنسان وبحثه الدائب عن التواصل مع الآخر والخلاص، وعن علاقة المرأة مع نفسها حيناً، ومع الرجل حيناً آخر، والمزج بين الواقع والخيال، حيث لم يكن يصر على استخدامٍ واضح للخط، وإنما اكتفى بإبراز الأجزاء الأساسية لشخوصه ساعياً إلى التحرر من أسر الاتجاهات والتيارات الفنية الجاهزة وجانحاً إلى "التعبيرية التجريدية"، لكنه يُقدّم نفسه ملونّاً، ينتشي كثيراً عندما يحصل على نتائج لونية مُدهشة أقرب إلى تقاسيم الموسيقا وغناء الروح.
يسعى الساجر إلى لوحة يُحقق فيها حالة من التوازن بين اللون والخط والتكوين، وأحياناً تسود التشكيلات اللونية على اللوحة، وتغيب الخطوط بخجلٍ، لتُخفف من قساوتها ووحدتها، مُعالجة بأدوات حادّة كالسكين، فتمنحُ لوحته شيئاً من الضبابية، أو السديمية الممزوجة بأحاسيس وروحانيات تقترب من التحليق والتصوّف. كما يشغل فضاءات اللوحة أحياناً بمساحات لونية وقطوعات تشكيلية مع بعض التأثيرات المُبهمة للسطح، وأحياناً تتخلل هذه الفضاءات إيحاءات ومفردات تحمل معاني ودلالات أو قد تكون مُجرد تشكيلات، لتبرز الإيقاعات اللونية وتبايناتها.
وأما عن شواغل اللوحة عند الفنان الساجر، فتبدو الوجوه مليئة بالتعابير والآلام مشحونة بتوتراتها وتعبها، تطرح تساؤلاتها الدائمة عن مصير الإنسان وأحزانه، وقد يظن من يُقارب عالم هذا الفنان؛ إنه يُحاذي الفن المُسيّس، وهذه طريقته كوسيلة معرفة، وطريقة من طرق الوعي والتحليل، لوحاته حضور للإحساس والانفعال واللون، وإيماءات لونية وتشكيلات من أوراق الذاكرة، حالات إنسانية لا تعرف السكون، فهي قلقة دائماً، تبحث عن مساحات للروح المُتعبة، وإضاءات لتُبدد العتمة قليلاً، قد يوحي تصويره ومجموعة ألوانه بحالةٍ من السردية، وقد يُعبّر عن حكايات ومفردات وأحلام وتخيلات، وأحياناً قد تكون أوهاماً أو جزءاً من الواقع لا حدود لديه للأشياء والسرد، ولا تأطير للزمن والحالات. أعمال الساجر قد تكون عبارة عن سماكات من اللون وتشكيلات وإيحاءات ناقصة، وقد تكون نصاً بصرياً بآفاق بعيدة ورؤية تشكيلية تحملُ نتائج غير متوقعة، ومفاجآت، لكنها جملة من الانفعالات والهواجس الإنسانية.
----
الكتاب: محمود الساجر – تعبيرية بلا ضفاف