اللغة هي "النظام" الذي يقيم الحد الفاصل بين الإنسان والكائنات الأخرى في الوجود، ومن المنطقي أن ينهض إزاء هذه المسلمة الطبيعية سؤال أول: "كيف ولماذا تطورت اللغة في جنسنا البشري وليس في الأجناس الأخرى؟".

وقد كرس العديد من العلماء اللغويين والبيولوجيين، منذ منتصف القرن الماضي، جهوداً كبيرة في دراسة علوم اللغة والإنسان والكلام والوراثة والأعصاب والأحياء من حيث التطور المستمر لفهم جوانب مختلفة من نشوء اللغة عبر مسيرة التاريخ البشري منذ بدء وجوده الحياتي.

أحد أولئك العلماء دبليو تيكومسيه فيتش، وهو أستاذ علم الأحياء الإدراكي في جامعة فيينا، ويُدرس تطور الإدراك والتواصل لدى الحيوان والإنسان مع التركيز على تطور الكلام والموسيقا واللغة، ومهتم بدراسة جميع جوانب التواصل الصوتي في الفقاريات البرية، ومن هنا تأتي أهمية وغنى كتابه "نشوء اللغة"، باعتباره "يقدم دراسة عن نشوء اللغة مبنية على منظور متعدد التخصصات يسلط الضوء على نظريات نشوء اللغة" عبر الدراسات التاريخية والعلمية.

يشير الكاتب إلى أن تطور اللغة البشرية هو أحد أهم الأحداث المثيرة للاهتمام في "الخمسة إلى العشرة ملايين سنة الأخيرة"، بل يمكن القول على مدى تاريخ الحياة كاملة. وقد ذهبت الدراسات المختلفة إلى أن نظام اللغة هو "نظام معقد بشكل هائل، وهي جوهرية للغاية بالنسبة إلى الإنسان حيث أنها تتغلغل في جميع مناحي الإدراك والسلوك البشري والثقافة".

يقول الكاتب إن الطفل البشري يستطيع أن يتعلم لغة ما استناداً إلى بيانات متفرقة في عالمه، بينما لن يتعلمها الشمبانزي الأكثر ذكاء، الذي يمكن أن يتعرض للبيئة نفسها، ولذلك فإن مهمة الكتاب الذي بين أيدينا، هي التركيز على حكمة التطور بشكل خاص، إضافة إلى الإجابة على الأسئلة المفصلية هنا "ما الآليات الإدراكية المحددة والموجودة لدى الطفل البشري وليس لدى الشمبانزي على سبيل المثال؟ ما هي أسسها العصبية والوراثية؟ كيف ترتبط تلك الأسس بآليات مماثلة لدى الأجناس الأخرى؟ كيف ولماذا تطورت لدى جنسنا البشري ولم تتطور لدى الأجناس الأخرى؟".

إلى ذلك ثمة فوارق واضحة بين الأطفال والكبار من حيث القدرة على تعلم اللغة في إطار الدراسة الواقعية، المتعددة الوجوه والمستويات، ويؤكد أن قدرات تعلم اللغة البشرية ليست متطورة جيداً في البالغين كما هو الحال عند الأطفال، إذ إنه هناك "فترة حساسة لتعلم اللغة بطلاقة تبدأ بالتلاشي بعد البلوغ. كما أن غريزة تعلم اللغة لها أساس بيولوجي. لكن اللغة أيضاً لها مكون اجتماعي غي قابل للاختزال".

والكلام من حيث التعريف النظري يشير إلى عدة دلالات فهو: نظام الإشارات الافتراضي لجميع الثقافات البشرية في جميع أنحاء العالم، وهو جزء من المكون البشري للغة.

ومن الضروري هنا الإشارة إلى نظرية قديمة تتعلق بالتراث الديني وتتعلق بالظهور البدئي للغة والكلام، وهي وجهة نظر نظن أن الكثيرين يعرفون فحواها لكن تأتي هنا في سياق تاريخي ضمن إشارات الكتاب على هذا النشوء غير المقطوع فيه "علمياً" إذ جاء في سفر التكوين "لقد جبل الرب الإله من الأرض كل وحوش البرية وكل طيور السماء، وأتى بهم لآدم ليرى ماذا يسميهم وكل ما سماه آدم من الكائنات الحية أصبح اسماً لها. وأطلق آدم أسماء على جميع البهائم وطيور السماء وكل حيوانات الحقول".

وتبقى هذه نظرية في سياق تاريخي ليس إلا، حيث يصفها الكاتب "بأفضل تاريخ ممتع، معرفي ممتع" في الكتاب المقدس، وتقوم هذه النظرية على ما يمكن أن يصطلح عليه "بالعشوائية". ويمضي في الحديث عن نظريات أصل اللغة التي سبقت داروين، حيث يعتقد بعض المفكرين والدارسين أن نشأة الكلمات قامت على نوع من "الصرخات الفطرية"، وفي المقابل هناك من يرى في "المحاكاة الصوتية" جذوراً أساسية لنشأة الكلام، وهي نظرية تقول بأن المفاهيم سبقت الكلمات عن طريق إنشاء رابط قوي بين "الصوت والمعنى". في حين ذهب داروين إلى تطبيق نظرية الانتقاء الطبيعي على "العاطفة البشرية واللغة والإدراك".

وفي سياق هذه الدراسة الموسعة نتعرف على مسائل ذات طبيعة علمية متخصصة مثل تطور المجرى الصوتي البشري، نماذج تطور الكلام وعلم الأصوات، الإشارات قبل الكلام: نظريات اللغة الأولية الإيمائية ولغة أولية موسيقية.

الكتاب يشكل مدخلاً لدراسة متعددة الاختصاصات لتطور اللغة، وفق الكاتب الذي يؤكد على هذا الجانب، مع الإشارة إلى أهمية "علم الأحياء الحديث، نظرية التطور الداروينية الجديدة وعلم الوراثة التطوري وعلم الأعصاب. وأهمية علوم اللغة الحديثة، علم اللغة النظري والتطبيقي وعلم اللغة المقارن".

----

الكتاب: نشوء اللغة

الكاتب: دبليو تيكومسيه فيتش

ترجمة: د. هنادي موصللي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق