ولأنّ النظر من علٍ، يُتيح للرائي زوايا رؤية أكثر، أو رؤية غير محددة الزوايا "واستطالات للحواس"، كما يرى حسان عباس، كان أن تشكّل نمط مستقل من فنون عالم الفوتوغراف، هو فن التصوير من السماء، وصار له نجومه في العالم.

تذكر جين تايلور، وهي إحدى الشهيرات في هذا الفن: التصوير البعيد ومن الجو تحديداَ، يعرض للشكل الخارجي الكامل، والأبعاد الطبيعية، أو تلك التي من صنع الإنسان. فيما شهير آخر في هذا المجال، هو يان آرتوس برتران، الذي صوّر أكثر من نصف المعمورة من الجو، له هدف من صور السماء، فهي ليست مجرد أعمال فوتوغرافية، لإبراز جمال المواقع الجغرافية وحسب، وإنما هي جزء من رسالة بيئية، للدفاع عن الأرض.

الفنان السوري هشام زعويط، رافق برتران خلال تصوير أرض سورية من السماء، وكان له لقطاته الخاصة، التي ضمّها كتاب أنيق صدر بعنوان "سورية رؤية من السماء"، وحتى تصير الصورة أجمل، أو حتى تكتمل الصورة، رافق الصور نص سردي، للباحث حسان عباس في ثاني تعاون بين الاثنين في هذا المجال.

لا تختلف غاية صور زعويط بأهدافها الجمالية والبيئية عما هدف إليه المصورون سابقاَ، لكنه يضيف إليها غاية أخرى، وهي الحفر عميقاَ، لإبراز غنى هذه المساحة السورية التي هي "185,180" كيلو متر مربع، لكنها تحوي اثني عشر ألفاً من تاريخ عشرات الحضارات عبر هذه الأرض، وهذا ما أكده نص عباس الذي اتخذ هو الآخر الطابع البحثي أيضاَ، وليس نصاَ عاطفياَ، أو محاولة شرح للصور، ذلك أنني طالما شككت بالقول "إنّ كلّ صورة تُعادل عشرة آلاف كلمة"، بل ربما العكس، قد يكون صواباَ أيضاَ، وهذا ما أكدته تجارب نقل الرواية إلى الشاشة، سواء كمسلسل، أم كفيلم، وذلك في الحد من مسألة التخييل الذي توفره الرواية.

مع ذلك فإنّ صور زعويط، لم تفتقر إلى فضاءات التخييل هذه، ولم تكتفِ بمعطيات المكان فقط، فيذكر: قبل أن أحلق في المروحية، كنت قد رأيت لقطات المصور السوري محمد الرومي من السماء، وبعدها بزمن رأيت صوراَ التقطها طيار فرنسي هاوٍ أيام الانتداب، وعرفت الفرق بين صور السائح العابر الذي ينشد الغرابة، وبين العين المحبة التي تقف وراء العدسة لتصوّر المعشوق بفرحه وألمه وجماله وجلاله، فجاءت الصورة تؤرخ اللحظة الهاربة، أو الفرصة، كما يسميها مصورو الجو، في إظهار روح المكان، وعمره أيضاَ، والحالات التعبيرية التي أعطاها اتساع زوايا الجو امداءً جمالية أخرى كـ"وثيقة للجمال والحياة" دون إهمال الأبعاد التراثية والبيئية بالتأكيد، فزعويط لم يكن يرغب في رؤية "فوق" أكثر مما كان يرغب في رؤية "تحت" من فوق.

ونحن على الأرض طالما تغزلنّا بجمال السماء، والليالي، والنجوم، أغساق وأشفاق، فجر وغروب، مطر وغيوم. وكان لها هواتها من المصورين، لكن عندما يصير المصور في السماء لا تعود غايته السماء، وإنما يصير هدفه الأرض، وكأنه يغرف لقطاته من متحف، أو كما يذكر برتران: الأرض كوكب جميل، وهو من الرقة بحيث أن أقل شيء يخربه، ومن هنا يمكن رؤية ما يدور عليه بعين تتعرف على مواطن الجمال، ومواقع التخريب كذلك، وهذا ما سجلته عدسة زعويط من تثبيت اللحظات التي تهرب من بين الأصابع، أو من مرأى العين أيضاً، مستفيداَ من الخصوصية التي يمنحها التصوير الجوي في اتساع أفق الرؤية والرؤيا، وليس كما يستطيع "الأرضي" ذو النظرة المستقيمة أن يراها، في رحلة، كان مسارها من حلب وريفها، ولتحط رحالها فوق دمشق، مروراً بسماء المنطقة الشرقية، والساحل، مسجلاً لحظات نادرة لفعاليات زراعية واقتصادية تارةً، وطوراً لمواقع بيئية غاية في الدهشة، أو آثار بحالتها البانورامية، وأيضاَ النص السردي اتخذ هو الآخر نفس مسار الرحلة، بحيث تظهر كلّ جوانب الصورة، سطحاَ وعمقاَ، ودلالات، فيكتمل المشهد، نصاَ وصورة، كبحث بصري منسجم بين عنصريه.

وكما لا يكتفي عباس بنصه في بوصف المكان فقط، وإنما يذهب بعيداً في التاريخ، ليصل إلى واقع المكان اليوم، كذلك زعويط، لا يكتفي بلقطة واحدة للمكان مهما كانت إحاطة اللقطة، وشموليتها، ولأنّ اللقطة- فرصة قد لا تتكرر، فإنه يشبع المكان بالتناول، طالما كان "البحث" هاجسه، وإذا ما دخلنا في التفاصيل أكثر، فإنّ حلب المكان الأول لانطلاق الرحلة البصرية هذه، يخصها وحدها دون محيطها بسبع صور، يبدأ بالصورة الشاملة والبانورامية، ثمّ يركّز بعد ذلك على التفاصيل، حلب التي ذكرها شكسبير في مسرحيتين "مكبث، وعطيل"، وكتبت فيها عشرات القصائد، يتحدث عنها عباس بذات الإسهاب، من معنى الاسم، وحتى مطبخ حلب، وزعترها وصابونها.

صحيح أنّ للمدن والأماكن القديمة حيزها الواسع في الكتاب، والمعلومات قد تكون معروفة لدى الكثيرين، غير أنّ الأمكنة البيئية، قدمت عنها المعلومة الجديدة الموثقة بالصورة والرقم أحياناَ، مثل المحميات الطبيعية وتوزعها في مختلف المناطق السورية، ومن المشاهد اللافتة كذلك "قرى الطين" البيوت الغامضة وسط سهوب البادية (وادي الفرات الأوسط، حوض دمشق) في زمنٍ مضى، واليوم جنوب حلب وجبل الحص، قرى: "أم الفشافيش، الشيخ هلال، صوران، بزاعة، العريمة، السفيرة، رقاص، والعمارنة. وتبيّن أنّ أقدم أنموذج للجدران الطينية الملونة في العالم – كما يؤكد الكتاب- اكتشف في (جعد المغارة) بمحافظة حلب. نهر الفرات هو الآخر له احتفاؤه أيضاَ في الكتاب، من صور وسرد، ذلك أنه إذا "كانت الأنهار التي تروي الأراضي المزروعة، هي أصل نشوء الحضارات الكبرى في العالم، فإنّ نهر الفرات هو أصل الحضارات البشرية"، فعلى ضفافه أسست أُولى مدن الكون، إنه الفرات إذاً الذي لا يمكن لكلمة في القاموس أن تعرّفه بأحسن ما يعرفه اسمه: الفرات. الفرات المجرى والحوايج، والضفاف، السد والبحيرة والجسر المعلق، وناس حقول القطن والمراعي.

----

الكتاب: سورية رؤية من السماء

المؤلف: حسان عباس، وهشام زعويط

الناشر: إصدار خاص