في كتابه الضخم (الموسيقا في سورية – أعلام وتاريخ)، الأقرب إلى الموسوعة، يرصد الباحث الموسيقي صميم الشريف مسيرة الغناء السوري على مدى ما يقرب من قرن، إذ يبحث الشريف في حياة خمسة وثلاثين ملحناً، ومطرباً، ومطربة من الذين ولدوا بين عامي 1885و1930، هذا في القسم الأول من الكتاب، غير أن الباحث يذهب، ليصل إلى المعاصرين منهم، لا سيما مغنيات الأوبرا الحاليين.

وبين هؤلاء، وبين الرواد، يتناول بالبحث حال الموسيقا السورية أواخر القرن التاسع عشر، متحدثاً عن قوالب الموسيقا الشرقية بشكلٍ عام، والتوزيع الموسيقي والإيقاعات الراقصة، والكثير من الأبحاث الموسيقية الأخرى، إضافة لتناول حياة أعلام أكثر من مئة موسيقي ومطرب سوري.

منذ البداية يتحدث الشريف عن مسألة غاية في الأهمية، وهي "نزوح" المطرب السوري خارج وطنه، وهذا الأمر يعود إلى بداية القرن الماضي، وربما قبل ذلك، وكان البعض من هؤلاء الذين أطلقوا مواهبهم خارج سورية، أجاد وأبدع، ولفت الانتباه إليه، أكثر من مطربي البلد المضيف نفسه، فيما عاد آخرون مكسوري الخاطر. في المقابل يفرد الباحث صفحات لمطربين آثروا البقاء في سورية، وتحملوا الصلف والعنت والجهل والتخلف، الذي وقف حائلاً دون تقدم مسيرة الفن السوري حتى منتصف القرن الماضي، هذه الفترة التي كانت لا تزال تعشعش في تلافيفها ظلامية العهد العثماني وجاهليته.

في هذه الأجواء المتزمتة، والمحملة بإرث العثمانيين البغيض، يظهر أحمد أبو خليل القباني بمسرحه الغنائي كظاهرة فريدة في الغناء والموسيقا، الذي وجد ذاته في الرحيل إلى مصر، وكان سبقه إليها شاكر الحلبي عام 1840، وقام بتلقين أصول الموشحات وفنونها، ومنذ مطلع القرن العشرين شهدت القاهرة "غزواً" مركزاً قوامه مشاهير الموسيقيين والممثليين السوريين، ككميل شامبير، توفيق الصباغ، ناجية الشامية وغيرهم.

وبرأي الشريف، فإن الموسيقا في سورية، تقوم على فرعين، يتفرع عنهما ما اصطلح على تسميته قوالب التأليف الغنائي والموسيقي، الأول هو الفن الغنائي وينحصر التأليف فيه، في القوالب الفنية التي أبدعها العرب كالقصيدة، والأغنية الدينية، والموشح، والغناء بكلمة يا ليل، والأغنية الشعبية، وغيرها. أما الفن الحديث الذي دخل على الغناء منذ ثلاثينات هذا القرن فتندرج فيه القصيدة الغنائية، والأغنية الدارجة، والأغنية الشعبية المطورة وغير ذلك. فيما لا تزال حلب حتى اليوم سيدة الموشحات منذ انتقل إليها هذا الفن من غرناطة الأندلس. وهنا يفرد الباحث صفحات للرواد الذين تحرروا من التركة التركية الموسيقية العثمانية، كمصطفى الصواف، وأحمد الأبري، وشفيق شبيب، والشيخ علي الدرويش، والمبدع في رقص السماح عمر البطش، وغيرهم، ليأتي بعد ذلك جيل ورثة الرواد، الذين غنوا في إذاعة "دمشق الفرنسية" أي زمن الانتداب الفرنسي، ومن هؤلاء: "رفيق شكري، مصطفى هلال، نجيب السراج. وهذه المرحلة لم تكن ذكورية صرفة، إذ شهدت ساحة الغناء في سورية، وكان المجتمع، قد تخفف بعض الشيء من تزمته، فظهرت كل من: زكية حمدان، سلوى مدحة، ونهاوند، وماري جبران. والأخيرة كانت سيدة مطربات بلاد الشام، بصوتها القوي – سوبرانو- الذي اتصف بالخصائص الجمالية، وجعلها تتربع على عرش مطربات عصرها. وبعد زمن قليل ستظهر فايزة أحمد، التي ستجذب بصوتها الدافئ الفتي انتباه الموسيقيين والملحينين إليها، لتغدو المطربة الأوفر حظاً بين المطربات المتنفذات في الإذاعة السورية، رغم ثقافتها المحدودة وأخلاقها الصعبة وردود أفعالها الآنية، وطيبتها المتناهية، كما يصفها الباحث، غير أن صوتها يمتاز بالرقة والقوة معاً، وبالدفء إلى جانب الجزالة، وتستطيع أن تؤدي المطلوب منها بدقة متناهية. ورغم أن الكثير من مبدعي الجيلين السابقين، تأثروا بدرجات متفاوتة بالمدرسة المصرية، غير أن الفنان رفيق شكري هو الوحيد تقريباً، لم يتأثر بها، وهو المولود بحي الميدان عام 1923، ويعود إليه الفضل في أنه نجح إلى حدٍّ بعيد في إعطاء الأغنية المحلية الهوية السورية لحناً وأداء، وطبعها من خلال قوالبها المعروفة بطابع البيئة السورية. وبعد ذلك سيأتي المجددون في الأغنية السورية، كمحمود عجان، ومحمد محسن، ونجيب السراج، وعبد الفتاح سكر، الذين صنعوا الأغنية السورية منذ أربعينيات القرن العشرين.

وفي نظرة بانورامية على مشهد الغناء والموسيقا في سورية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى مطالع القرن الواحد والعشرين، يركّز الشريف على ما يلي: اهتم الرواد بالتراث، وكتبوا فيه أجمل الأغاني والألحان، غير أنهم حصروا عطاءهم بالدرجة الأولى بالموشح والدور، دون أن يقدموا جديداً، فيما ورثة الرواد، قد بحثوا في المدرسة المصرية، التي حافظت على التراث، واستحدثت أنواعاً جديدة، وقبست من الغرب بعض فنونه. ومن ثم ليدخل الباحث إلى شيءٍ من الموسيقا السورية الصرفة، فقد عُثر في (تل الحريري) على نتفٍ وقصائد غنائية، هي أقدم مما هو معروف في التراث الثقافي الغنائي، كما ظهرت في أوغاريت مدونة حسب سلم فيثاغورث، ولكنها مدونة قبله بـ 1200 سنة.

من هذا الإرث القصي والموغل في القدامة، ستشهد سورية حراكاً موسيقياً، يمشي مصارعاً بلا هوادة إرثاً جاهلياً، فرضه استعمار عثماني شديد التخلف، والذي لم يتخلص منه هذا الحراك، إلا بعد أن ينقضي أكثر من نصف القرن العشرين، فيظهر على الساحة، صباح فخري، سهيل عرفة، فؤاد غازي، وصفوان بهلوان، وآخرون، الذين على أكتافهم انتشرت الأغنية السورية حتى خارج حدود سورية.

وفي فصلٍ لافت يتحدث الشريف عن المطربات السوريات، اللاتي شغلن الحياة الفنية بدمشق منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى اليوم، وهن كثيرات، منهن من سقط على الدرب لافتقار مواهبهن على الاستمرار، ومنهن من تجاوزن بأدائهن إلى سائر الأقطار العربية، وصولاً إلى مغنيات الأوبرا مثل: أراكس تشكجيان، لبانة قنطار، سوزان حداد، رشا رزق، نعمى عمران، وتالار دكرمنجيان.

----

الكتاب: الموسيقا في سورية – أعلام وتاريخ

الكاتب: صميم الشريف

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق