المدهش أنه، على الرغم من تنوع دلالات كلمة "صورة"؛ فلا زلنا نفهمها على أنها تُشير إلى شيءٍ ما. صحيحٌ أنه قد لا يُحيلنا على الدوام إلى المجال البصري، لكنه يقتبس بعض سمات المرئي. نفهم أنها تتعلق بكلِّ الأحوال بإنتاج موضوعٍ ما: لا بد للصورة سواء كانت تخييلية، أم مادية محسوسة، من أن تمرَّ عبرَ إنسانٍ يصنعها، أو يتعرف عليها.

عن الصورة وماهيتها وتحليلها يتحدث كتاب "مدخل إلى تحليل الصورة" للباحثة مارتين جولي. ولعلّ التعريف الذي أطلقه أفلاطون منذ قديم الزمان، يبقى واحداً من أقدم التعريفات التي أعطيت للصورة، يقول أفلاطون: "أطلق اسم صورة أولاً على الظلال، ثم الانعكاسات التي نراها على سطح الماء، أو على سطوح الأجسام المصقولة واللامعة، وعلى كل ما يتمثل وفق هذا النمط". أي أنّ الصورة هي ما يُرى في المرآة، وكلُّ ما يتمثل على هذا النحو، وهنا نستشف أنّ هناك من يعتبر الصورة بمثابة موضوعٍ ثانٍ، يُنسب إلى موضوعٍ آخر أولي تُمثله وفق عدد من القواعد والقوانين الخاصة.

وثمة من يُعرّف الصورة حسب استخداماتها، وفي كل الأحوال إذا كانت كلّ صورة هي تمثيل، فهذا يقتضي بالضرورة أن يكون لها قواعد تكوينية محددة، وإذا كانت تمثلات الصور هذه تُفهم من قبل أناس لم يشاركوا في صنعها، فذلك يعني أن ثمة فيما بينها حداً أدنى من الاصطلاحية الاجتماعية – الثقافية. أي بتعبير آخر أنها تُدين بالجزء الأعظم من دلالتها إلى جانب الرمز منها. أما عن تحليل الصورة فطالما أثار الكثير من التحفظات منها: ما الذي يمكن أن يُقال عن رسالة تبدو وتحديداً بسبب التشابه مقروءة "تلقائياً" وبشكلٍ عفوي؟ وموقف آخر يعترض على غنى الرسالة البصرية مردداً: "هل حقاً أراد مؤلفها كل هذا؟"، وثالث التحفظات أو الشكوك يخص الصورة باعتبارها صورة "فنية" يُخشى أن يفسدها التحليل، بحجة أنّ الفن ليس شأناً عقلانياً، بل هو موضوع وجداني وعاطفي.

تصل الباحثة جولي إلى يقينٍ أنّ التحليل ينبغي ألا يكون هدفاً لذاته، وإنما لا بد له أن يتم لخدمة مشروعٍ محدد. غير أن تحليل الصورة، ومن ضمنها الصورة الفنية، يمكن أن يلبي وظائف بالغة التنوع، فإلى جانب أنه يجلب المتعة إلى نفس المحلل، يزيد من معارفه، ومن ثقافته وسعة اطلاعه، ويتيح له إمكانية قراءة، أو إدراك الرسائل المرئية بطريقةٍ أكثر فاعلية، ولئن كان تعيين الأهداف وامتلاك الأدوات الخاصة بتحليل الصورة يُشكلان مقدمتين منطقيتين لا غنى عنهما للشروع في تنفيذه، فإن تحليل الرسالة البصرية بوجهٍ خاص، لا بد من أن يسبقه نوعان آخران من الاعتبارات أولهما دراسة وظيفة هذه الرسالة، وثانيهما دراسة سياق ظهورها.

وعندما نُعامل الصورة على أنها رسالة بصرية تتألف من أنماط متنوعة من العلامات، هذا لأنها بمثابة لغة، أي بمثابة أداة تعبير واتصال. ومن المسلم به أن الصورة سواء كانت تعبيرية أم تواصلية، هي في الواقع رسالة للآخر حتى عندما يكون هذا الآخر هو الأنا ذاته. لهذا السبب فإن البحث عمن تتوجه إليه الرسالة البصرية، هو واحدٌ من الاعتبارات الضرورية التي ينبغي أن تؤخذ في الحسبان للتوصل إلى فهمٍ أمثل لهذه الرسالة. ولتمييز متلقي الرسالة البصرية وموضوعها، لا بدّ من امتلاك عددٍ من المعايير المرجعية. وفي هذا الاتجاه ثمة طريقتان عمليتان، الأولى: تقوم على موضعة مختلف أنواع الصور ضمن قالب عملية الاتصال، والثانية: تعتمد مقارنة استخدام الرسالة البصرية، مع سبل استخدام أهم الوسائل التي أنتجتها البشرية، لتسخرها في نسج صلة ما، بين الإنسان والعالم الذي يُحيطه.

تقول الباحثة: عندما ننظر إلى الصورة بوصفها رسالة مرئية تتموضع فيما بين التعبير والاتصال، فهذا يستوجب من النهج التحليلي أن يأخذ في الحسبان وظيفة هذه الرسالة وأفق توقعها إضافة إلى سياقاتها على اختلاف أنواعها. وسيكون بذلك قد توصل إلى رسم الإطار الذي سيعمل على جعل أدواته الذاتية نسبية غير مطلقة، والسعي إلى تمييز بعضها عن البعض الآخر. عندها سيأخذ التحليل مكانته فيما بين التعبير والاتصال شأنه شان الصورة.

تُعتبر العلامات التشكيلية – كما ترى الباحثة – جزءاً لا يتجزأ من العلامات المرئية التي تدخل في تكوين الرسالة البصرية، ويعود التمييز النظري بين العلامات التشكيلية الجمالية، والعلامات الأيقونية، إلى ثمانينات القرن الماضي، فقد ثبت أن العناصر التشكيلية الجمالية للصورة هي: الألوان، الأشكال، التكوين، الملمس، وهي علامات مكتملة قائمة بذاتها، حيث الاختبارات التشكيلية الجمالية هي التي ترسم ملامح الجزء الأعظم من دلالة الرسالة البصرية، وليس فقط الأيقونة التماثلية. ما تصل إليه الباحثة: أن الاهتمام بالصورة يعني الاهتمام بتاريخنا وبأساطيرنا، وبمختلف أشكال التمثيل التي عايشناها، الأمر الذي سيكون من الغنى بحيث يضع حدّاً للآراء التي تختزل الصورة إلى مجرد صورة إعلامية، أو صورة حاسوبية، وهذه الأخيرة ليست سوى التحوّل، أو التجسيد الأحدث، للعلامات المرئية التي تواكبنا على امتداد حياتنا، مثلما واكبت الإنسان على امتداد التاريخ الإنساني.

----

الكتاب: مدخل إلى تحليل الصورة

الكاتب: مارتين جولي

ترجمة: نبيل الدبس

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق