ثمة ملامح تميّز تجربة الفنان التشكيلي علي سليمان، ملامح أكسبت هذه التجربة خصوصيتها التي امتدت على مساحة زمنية تجاوزت النصف قرن، خصوصية كان للجغرافيا دورها "الحاضن" للتجربة، التي مدّت باتجاهها مجساتها إلى البعيد والقريب فيها، إن كان جاء ذلك في العمق، أم من ملامسة الحياة اليومية.

ومن هنا كان على علي سليمان، أن يقسم هذه التجربة، بشكلٍ أقرب إلى التوصيف، على مراحل عقدية، ارتبطت بالمكان أشد ما يكون الارتباط. مراحل هي على حسب العقود أربعة، فيما تعددت الأمكنة الحاضنة لهذه التجربة الفنية، من خلال مدن وأرياف كثيرة كان لها تأثيرها الواضح الذي أسبغ على اللوحة شيئاً من عمق المكان ومن مفرداته وعناصره.

كل هذه المراحل التي سماها علي سليمان (التحوّل) جمعها في كتاب صدر بدمشق بذات الاسم، كتاب يرصد تحولات التجربة التشكيلية سواء جاء ذلك بالصورة التي تؤكد هذه الانعطافات، أم بالقراءات والمتابعات النقدية التي واكبتها حينها من قبل عدد من النقاد والصحفيين والفنانين التشكيليين، حيث لكلِّ انعطافة لوحاتها وقراءاتها النقدية، لينجز في النهاية تصوّر للملامح الكاملة بالصورة المدعمة بالكلمة.

ملامح يمكن للمتابع أن يجملها بعددٍ من الخصوصيات، ولعلَّ أهم هذه السمات، تكمن في هذه اللوحة التي تمدُّ بألوانها وتكاوينها باتجاهين، الأول: باتجاه الجماليات القديمة في الأرض السورية، حيث عشتار، وجلجامش، وليليت، وإنانا، آدم وحواء والتفاحة، والعشاءات الأخيرة وما بعدها، ومختلف النصوص والميثولوجيا الموغلة في القدامة، والتي لاتزال عالقة، أو تصرُّ على تعالقها بالمنتج الإبداعي الجديد. وثمة تقنيات تذهب باتجاه الحاضر، من واقع، وحياة شخصية، وصولاً إلى الحداثة وما بعدها مما وصلت إليه الفنون الجميلة.

ملمحٌ آخر يطل برأسه هو الآخر في مختلف مفاصل هذه التجربة، وهو أن اللوحة لدى هذا الفنان لا تقدم نفسها بهذه البساطة لمتلقيها، وإنما تقدم ألوانها وتكويناتها بشيءٍ من الدلال، تماماً كامرأة من خلف خمار، أو من خلف مشربية، حتى ليحتار المشاهد، أو المتلقي لها، هل الفن هنا في هذا الخمار، أو المشربية أم هو كامن وراءهما. غير أن علي سليمان يؤكد أنه يقدم نتاجه التشكيلي هذا من خلف سنديانة، هذه السنديانة التي وجد تحت أفيائها مكاناً ما، في ذلك الفضاء من ريف حمين في طرطوس، ليرسم ويصور، هناك حيث يقتنص الضوء الأزرق المتسلل من بين الأفنان لتلك الشجرة، ومن ثم يُعيد صياغة نصه البصري بمفرداته الحديثة، ويكمل هذا الملمح التوشيحي والضبابي.

سمة أخرى، وهي الإحساس بأن اللوحة لديه لم تقل كامل نصها، وإنما ثمة شعور بأن هناك بقية يمكن للمتلقي أن يتممها بشيءٍ من التأمل. ولأن الأمر كذلك جاءت لوحة الفنان علي سليمان حاملةً بعضاً من السيرة الذاتية لصاحبها، وكان الحاضن لكل هذا النص اللوني والبصري مكاناً دائماً. ومن هنا يُقسم تجربته إلى مراحل، وإن بدا أمر التقسيم هذا أقرب إلى التقسيم المدرسي، ذلك أن التداخل والبناء على ما تمّ إنجازه كان حاضراً في كل مرحلة، غير أنه ورغم ذلك كانت هناك مجموعة من التقنيات تعطي تميزاً ما لكل مرحلة، المرحلة الأولى من عام 1970 وحتى 1980، وهي التي أنجزها بين مدن طرابلس- لبنان، وحمص، ودمشق، في هذه المرحلة تناولت لوحاته مواضيع المنظر الطبيعي، والطبيعة الصامتة، والإنسان، والمرسم، والموديل، وحياة الفنان، والواقع، وإعادة صياغة هذا الواقع. أما المرحلة الثانية، فتأخذ مساحة عقد هي الأخرى أيضاً وهي بين عام 1980 و1990، وأما أمكنتها فهي بين مدينتي دمشق وبرلين، وتناول فيها الفنان مواضيع المناظر الدمشقية، والأساطير، والتراث، والطبيعة الصامتة، إضافةً إلى حياة الفنان داخل وخارج المرسم، وثمة مواضيع أخرى إنسانية وتاريخية. فيما المرحلة الثالثة التي تأخذ مساحة العقد الأخير من الألفية الثانية، أي بين عامي 1990 و2000، في أمكنة ينطلق – كما دائماً- من دمشق، إلى عواصم عالمية. وفي هذه المرحلة تكون التجربة قد أخذت المساحة الكبيرة من النضوج، وافتتاحيتها، كانت لوحة دمشق الحزينة (الشهب) وهي موضوع أو همّ عاشته الشام عام 1994، وقد نفذه الفنان بتقنيات مختلفة حديثة لم تطرح سابقاً، وهي الجمع بين تقانة الغرافيك الجداري –الرسم والتصوير الجداري- فكانت دمشق الغاضبة والعالية السماء بتقنية التصوير الزيتي، حيث رسم الشهب فيها، الأمر الذي قدم عملاً متميزاً مشحوناً بالتعبيرية فكراً وأسلوباً وتقانة. كما أنتج في هذه المرحلة مواضيع دمشقية وتراثية، وإعادة صياغة مواضيعه التاريخية والاجتماعية والأساطير مثل لوحات آدم وحواء والتفاحة وديموزي وحروف من عمق التاريخ.

وأحدث ما وصلت إليه تجربة علي سليمان التشكيلية – في هذا الكتاب -، هو في عقدها الرابع، وهو الأول في الألفية الثالثة، أي بين عام 2000 و2010، وأما أماكن إنتاجها فكان بين دمشق وحمص، ومرسم برج الطيور في حمين، ومن شواغل هذه المرحلة: مناظر طبيعية توفر فيها السنديان، وجماليات الوطن، ووجوه تاريخية، وثمة اتجاه صوب الأنبياء كالمسيح والعذراء، وميار إله الأمطار، وحادثة الصلب، والحب، وإغواء التفاح، ومساحات واقعية من مناظر الخلوية التي تحولت إلى تجريد، لكنه القادم من عمق الواقعية. وتبقى المرحلة من 2010، وإلى اليوم تحوّل آخر خارج كتاب (التحوّل)، والتي ربما يضيفها إليه في طبعةٍ قادمة.

----

الكتاب: التحوّل

الكاتب: علي سليمان

الناشر: إصدار خاص