ثلاث نقاط كبيرة، ثمّ يضع علي مرعي عنواناً لروايته "لهذا الزمن"، ويترك قارئه يتساءل ما هو هذا الشيء الذي لهذا الزمن؟ أي أنّ لعبة الروائي تبدأ من هنا من العنوان، أي يبدأ باللغز، وعلى هذا اللغز سيبني سرد الرواية.

اللغز الذي سيستدعي التشويق لمعرفة كلمة السّر، أو كلمات الأسرار التي تقوم الرواية، أو يقوم السرد على معرفتها، وحل اللغز، وهذا لن يتأتى للمتلقي إلا بعد قراءة مئتين وواحد وثلاثين صفحة هي عدد صفحات رواية (لهذا الزمن) ولأنّ صاحب الروية اختار هذه التقنية الروائية، فلم يكن أفضل لها من مخطوطٍ قديم تمّ نسخه عام 1345 هجرية، يتحدث عن زمن أواخر عهد الأسرة القلقشية، وهذه طريقة معروفة، أو على الأقل استخدمت أكثر من مرة كمبرر لسرد الرواية، ومن ثمّ سيجد القارئ أكثر من مستوى للسرد، وأكثر من روية في الرواية، إلى درجة يمكن القول إنّ مثل هذا السرد يشكّل ما صار يُطلق عليه رواية الروايات.

للوهلة الأولى كنت أظن أنّ مخطوط (طريق الحق) الذي تتضمنه رواية "لهذا الزمن" ليس أكثر من تخييل للكاتب، حتى الصفحات الأخيرة، عندما قام، وكنوع من الأمانة العلمية، بتصوير فوتوكوبي للصفحتين الأولى والأخيرة وتثبيتهما في نهاية الرواية، ومن ثمّ كان على الكاتب ليس سرد أكثر من مستوى، وروي أكثر من سرد، بل سيداخل الأزمنة البعيدة بالحاضرة، ولنكتشف بعدها أن لا شيء تغير بين هذه الأزمنة كلها، أو أن الزمن الذي يمر هو ذاته، والناس، أو ناس هذه الأزمنة كافة يقومون بالأفعال ذاتها من خيرٍ وشر، وطموح وقناعة، وإيمان وشك، وزهد وجشع. وما كان يصلح للزمن القديم من سبل النجاح والحكم وإصلاح الأمور، لا يزال يصلح لهذا الزمن أيضاً.

لأجل ذلك سيختار علي مرعي لسرده الأسلوب الدرامي أي الحوار، ومن ثمّ سيغيب الصوت الداخلي في الروية، لأن الحوار يتطلب الصوت الذي يُسمع الآخرين – المتحاورين، ولذلك ستكون كلّ الأصوات مسموعة، الأمر الذي غيّب الكثير من النجوى والمنولوجات، والحالة الجوانية للشخصيات، وهي – الحوار- طريقة. هناك الكثير من استخدمها لا سيما الروائي الكويتي طالب الرفاعي، بحيث تأتي الرواية وكأنها سيناريو مسلسل تلفزيوني، ولم يكن ينقصها سوى تقسيمها إلى جداول، وتحديد زمن المشاهد، وطريقة أخذ اللقطات، وهي طريقة مشوقة في السرد في كل الأحوال، تبعد الملل عن القارئ، ولا تجعله يضيع في متاهات النجوى الطويلة التي تشطُّ أحياناً بعيداً عن السرد، وربما ما جعل مرعي يلجأ إلى هذه التقنية هو حجة كتابة الرواية، الاتصال بالأصدقاء وإعلامهم بعثوره على مخطوط قديم ليقيموا الجلسات والسهرات لمناقشته والحديث به وفيه، ومن ثمّ ليكون الباعث لأحد الأصدقاء المترددين لإصدار روايته التي يخشى عواقب نشرها طول الوقت، والخوف من الرقابة الذي منعت كتاب (طريق الحق) من الصدور في الزمن القديم، لا تزال هي ذاتها التي تمنع صدور رواية اليوم التي تتحدث عن "زبّال" مأساته أنه عرف أكثر مما يجب، فكان مصيره الموت تحت عجلات سيارة غامضة. ومن ثمّ كان لديه المبرر لتضمين الروايتين، أو النصين القديم والحديث معاً في إصدارٍ جديد، وهنا المقصود رواية شخصية (ربيع) في الرواية، لكن هل تمر مثل هذه التورية على الرقابة؟

وباعتبار السارد، أو الراوي سيتنقل بين أكثر من شخصية، من ثمّ ستتعدد مستويات السرد، في البداية الإعلان عن وجود المخطوط، ومن ثمّ قراءته بطريقة تُعيد تقنية سرد الحكواتي القديمة في المقاهي وسهرات الشتاء الطويلة، وسرد الأصدقاء، أو رواية الأصدقاء فيما بينهم، وأخيراً رواية (ربيع) صاحب الرواية المتعثرة. لكن فيها جميعاً كان الصوت متناقلاً، ومسموعاً بين جميع الشخصيات، وكأن كل الشخصيات تريد إسماع صوتها. مع أنّ البداية كانت غير ذلك تماماً، فقد بدت وصفية وشاعرية للغاية "المساء، كان هناك مطر خفيف ونسمات باردة، أضواء مصابيح الشارع تبدو كأنها أشباح متراقصة. في البعيد كلّ شيءٍ مبهم وضبابي".

غير أن هذا المبهم والضبابي سيتكشف بسرد تلك الروايات المتعددة في السرد لنعرف ما هو هذا الذي لهذا الزمن. وهذه ستكشفها الحوارات، أو حوارات الأصدقاء، التي ستُفضي إلى الكثير من المعلومات، وهي من الراويات القليلة التي يمكن اعتبارها رواية معلومات مزحومة بكمٍّ هائل من الميثولوجيا أو أنّ الرواية قائمة على ما صار يُطلق عليه في النقد "السرد ما تحت أدبي" القائم على جماليات سرد الحكايا والقصص الشعبية والمعتقدات والخرافة والأساطير، وغيرها، وهذا ما صار يشكّل خصوصية للكثير من الروايات والروائيين، إلى درجة أنّ الكثير من الكتاب العالميين الذين يفتقدون إلى هذا الما "تحت أدبي" أن استعاروه من شرقنا، كما فعل باولو كويلو وغيره.

----

الكاتب: لهذا الزمن

الكاتب: علي مرعي

الناشر: دار الحوار - اللاذقية