تقول الحكمة الصينية القديمة "المعرفة لا حدود لها"، ذلك أن عمر المرء لا يكفي لاكتسابه المعرفة بسبب من حياته المحدودة، لذلك أيضاً فإن "السعي وراء اللامحدود مع المحدود أمر خطير ومرهق ويمنع المرء من السعي وراء المعرفة"، وأي شخص يجهد نفسه في جمع المعرفة، معرض لخطر إرهاق نفسه تماماً، لكن هل يمكن للمعرفة أن تكون غريبة بشكل غريب؟
يشير الكاتب إرنست بيتر فيشر، في كتابه "المدهش في العالم- ما يجعله العلم ممكناً وغير ممكن"، إلى مقولة الفيلسوف كارل بوبر الذي أكد أن "كل المعرفة البشرية يمكن أن تكون افتراضية فقط، وأنه مع التحقق المناسب من ذلك، من الممكن أن تظهر على أنها غير دقيقة أو أن يتم تزويدها، ولذلك تُقدم المعرفة غالباً في النصوص الفلسفية على أنها غير معصومة". وعلى هامش ذلك ينهض سؤال آخر: كيف يمكن للمعرفة أن تنقذ العالم؟
الإجابة النسبية تأتي هكذا "إنقاذ يتلوه رعب!"؛ ففي القرن التاسع عشر كان إنقاذ العالم يعني، قبل كل شيء، مساعدة الناس. وقد أدى التطور في القرن العشرين إلى توسيع هذا المنظور، وجعل السيناريو الممكن منه مجالاً لرعب هائل عندما تم إطلاق الطاقة الذرية ومعرفة احتمالات ما قد تذهب إليه. ولكن المفارقة تبدت أيضاً في إشارة الكاتب إلى أنه "في الستينيات عندما كان على جيمس بوند إنقاذ العالم، رأى العديد من السياسيين أن الطاقة الذرية علاج حضاري يمكن أن يساعد البلدان النامية في التعامل مع النمو السكاني في العالم وكذلك التعامل مع المجاعات. لكن احتمالات إطلاق الطاقة الذرية بمستوياتها الخطرة، ينبغي تسليط الضوء عليه وعلى الباب المظلم للعلم!
تُؤرخ بداية العلم الحديث في أوروبا بمطلع القرن السابع عشر، وفق المؤرخ باولو روسي، وقد قام "المنهج العلمي" على جهود الرباعي: البريطاني فرانسيس بيكون، والألماني يوهانز كبلر، والإيطالي غاليو غاليلي، والفرنسي رينيه ديكارت. وقد استخدم هذا المنهج بشكل موسع وطور باستمرار.
ويرى الباحث الأمريكي فان دورين أن القرن السابع عشر كان الأكثر أهمية في تاريخ البشرية، فقد حدثت فيه تغييرات لا رجعة فيها، ولا يمكن للناس بعدها العودة إلى نمط حياة النهضة. ليأتي السؤال الكبير حول إذا ما كانت هذه التغييرات للأفضل بشكل عام؟ وإذا ما كانت المعرفة المكتسبة جعلت العالم صالحاً للعيش أكثر أو أكثر أماناً؟ ليضيف الكاتب سؤالاً أكثر قسوة "هل تنقذ المعرفة العالم، أم أن المعرفة المتنامية تؤدي فقط إلى قتل الناس بعضهم البعض بشكل أسرع وبطريقة أكثر استهدافاً في النهاية للنوع البشري بأكمله كمناورة على شفا الانقراض الذاتي؟".
وكان من هواجس البشر، عبر التاريخ، تحري الذات عبر المعرفة، فقد كتب على واجهة جامعة فرايبورغ "الحقيقة ستحرركم" على أن يعني ذلك أن المعرفة قابلة للاستخدام تقنياً. وأمام التطور العلمي والتقني الكبير ثمة سؤال آخر يقول: كيف نريد أن نعيش في المستقبل؟ وهو سؤال طرحه السياسي والفيلسوف الطبيعي كلاوس مايكل في كتابه "العلم من أجل المستقبل" وفيه روج للتفكير الشامل في المسؤولية البيئية والاجتماعية.
وتعد الكيمياء أحد المتطلبات الأساسية من الناحية "التصويرية والرمزية"، فلا غنى عن هذا العالم لإطعام السكان الذين يتزايد عددهم بسرعة مع ضرورة مراعاة توفر الكثير من الطعام، وكذلك تزويد الصناعة سريعة النمو بالمواد، والتنقل سريع النمو بوسائل الدفع. ومع ذلك فهو ضروري أيضاً لمفهوم المجتمع الحديث، ليس فقط لاستخدام الطبيعة تقنياً، وإنما لتجاوزها في إنتاج المواد غير الموجودة في الطبيعة.
وعلى الرغم من مسيرة التطور العلمي، إلا أن ثمة لحظات كانت أشبه بمحطات تعود إلى عالم الظلام القديم، ومنها إعدام لافوازييه تحت المقصلة الفرنسية الشهيرة بعد أن رفض رجال الثورة رجاء العالم الكبير بتأخير إعدامه يوماً واحداً لإكمال عمله العلمي الهام على إيقاع جملة سوداء "الجمهورية لا تحتاج إلى علماء".
وفيما كان الباحثون يعيشون في القرنين السابع عشر والثامن عشر من أجل العلم، بدأ القرن التاسع عشر بكسب رزقه من العلم، وغالباً ما تغير العلم من الفضول المرح إلى مهنة جادة كما يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر، حيث بدأت حركات التوسع، ووجد العلماء مكاناً لهم في الشركات الكيميائية والصيدلانية المنشأة حديثاً. ويشير إلى أن "معرفة العلماء تنير العالم وفي الوقت نفسه تحافظ عليه، وهذا الحفاظ على العالم يتم من خلال المعرفة". ويؤكد العالم الفرنسي باستور أن المعرفة هي التي تمكن من الابتكار والتقدم.
وعلى هامش "الجانب المظلم" من العلم يتساءل الكاتب، على خلفية استخدام القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية، حول إذا ما كان ممكناً أن يكون هناك قَسَم أبقراط للعلم، وماذا يتطلب تحقيق ذلك؟ مثيراً في الوقت نفسه سؤالاً حول ماهية الخير والشر، والإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى الخير فقط.
الكتاب يقدم سلسلة واسعة من المعلومات والأحداث المختلفة في سياق تاريخي لا يتوقف عن التعمق والبحث في أثر الاكتشافات العلمية على المجتمعات البشرية والحياة.
----
الكتاب: المدهش في العالم - ما يجعله العلم ممكناً وغير ممكن