"سلوى المتحف"؛ هكذا يختصرُ القاص فيصل أبو أسعد عنوان مجموعته القصصية، تلك الجملة الاسمية المُبهمة، والمُقتضبة كإخبارٍ هامس، بخلاف عناوين قصص المجموعة العشرين، التي غالباً ما كانت تأتي جملاً فعلية، ويتعدد فيها الفعل في جملٍ تطول أحياناً، وإن كانت بعض القصص كثفها واختزلها بمفردةٍ واحدة.
تلك أولى ملامح مجموعة "سلوى المتحف" الذي هو عنوان لإحدى القصص، كما درجت عليه العادة في اختيار اسم المجموعة، من اختيار عنوان لإحدى قصصها، أي أن "عتبات" المجموعة كانت تأتي بين التطويل والتكثيف، من شرح النص من عتبته أو عنوانه، وصولاً إلى تأويلات المفردة الوحيدة على تلة حبر القصة.
غير أنّ الاشتغال على العنوان، لم يكن الملمح الوحيد لقصص "سلوى المتحف"، بل طريقة سرد النصوص، التي كانت واضحة "الحرفنة" حتى كادت أن تضيع معها هويتها وجنسها، لا سيما في تماهي "الحدث" واقتضاب الحكاية، لصالح غنائية السرد المفعمة بالصور وتداعيات ذاتية مؤثرة.
"التقيا في قطار المجاز السريع الذي لا يعود، في رحلةٍ تقصر عادةً عن مدى الشوق، أو تطول أو تتلاشى.. من قصة تنام خلف الكنايات".
لطالما تحدث النقاد عن خشية على القصة القصيرة من غلبة "الشعرية" التي قد تُضيع الحدث القصصي في إغواء حريرها، غير أن ذلك ما كان القاص أبو أسعد منُتبهاً إليه وواعياً له على مدى سرده القصصي، فقد أبقى على "الحكائية" تمدُّ بمجساتها لتلتقط النصوص، وتشدّها إلى جسد القصة القصيرة، وهي تمشي على التخوم بين الشعر والحكاية، غير أنّ السرد العالي، وفتح دوائر التأويل في تكثيف اللغة الشعرية التي جاءت لبوساً للقصص، والتي استخدمها القاص أبو أسعد؛ جعله يأخذ لقصصه أسلوباً خاصاً، ويخرج عن مباشرة النصوص التي غالباً ما كانت تجعلها نهب واقعية تكاد أن تضعها في إطار الأنواع الصحفية المعروفة بالتقريرية. هذه الشعرية العالية في النصوص، جعلت القصص على تخوم القصيدة طول الوقت من دون خوف على الحدث القصصي، وهذا ملمحٌ ثان في سرد فيصل أبو أسعد.
"في الليل تكتملُ الصورة والمأساة. أترنحُ مخموراً ما بين النور المُنبت من الشاشة واللهب الطالع من غبش الحمام. ثمة أشياء لا تفهمها ليلى. منذ تزوجنا وأنا مخنوق بحرير مودتها. مجلودٌ بسياط الرغبة كالإدمان". من قصة رماد.
قمصان السرد التي استعارها القاص من القصيدة وألبسها لنصوصه القصصية، وفرت له الكثير من الهدر في السرد، وكثرة التفاصيل لإتمام الحكاية، ذلك أنّ التأويل الذي توفره اللغة الشعرية بما تحمله من مجازات كثيرة، تُغني عن الكثير من الحكي، ويؤمن التكثيف وعدم الإطالة. من هنا نتفهم كفاية القاص بهذه اللغة التي لا تمدُّ بساط السرد بعيداً، من دون أن تنحرف صوب القصة القصيرة جداً، وإن بقيت على أطرافها، سواء من حيث الطول، أو من حيث اشتباك لغتها مع لغة القصيدة، وحتى في الخواتيم التي تأتي كمن يدلق دلو ماء في وجه نائمٍ. مع ذلك لم يلبس القاص نصوصه معاطف القصيرة التقليدية التي تستهلك الكثير من الصفحات، وإنما قدم نصوصه بقصصٍ بكلّ رشاقة الغزلان على السفوح. وهذا ملمحٌ ثالث من ملامح القص عند فيصل أبو أسعد.
ورغم أن شواغل القص عند صاحب "طعام الأرملة" في غايات قصصه، إنها تُركّز على الهم الذاتي، لكنه من نوع تلك الشواغل التي هي هواجسنا لأزمانٍ طويلة، بمعنى "الأنا" الضمير الفاعل الذي يُحرك معظم أفعال النصوص، هو "الـ نحن" المتشظية في كلنا، ومن ثم فإن تلك الشواغل تعنينا، والأمر فقط أنه توفر لغيرنا أنه يُعبّر عنها، ويصيغها، ويجد لها المُعادل الإبداعي. نصوص يحرث من خلالها القاص في حقول المجاز، بحثاً عن كناية أو استعارة من واقعٍ مفعم بمختلف شخصيات الخيال التي يربطها إلى تلك النهايات الواخزة كمشاعر قائد عسكري خسر معركته للتو. لغة وفر لها استخدام كلّ هذا المجاز مشهدية واسعة، من هذه الصور البصرية التي يرسمها توهج اللغة التي تجول في مواقف عاطفية في أغلبها تقريباً، واجتماعية إنسانية فيما تبقى.
"بابٌ من الياسمين، خلفه عينان مذعورتان، تتقافزان بين حسرة الأم على ابنتها وشتائم الأب المقعد في الطابق الثاني. بابٌ يئن تحت وطأة الشوق واللوعة، ويدٌ نحيلة تمتدّ من ورائه لاستلام الصغير من يده". من قصة بين الشراشف البيضاء.
إنّ قراءة العناوين وحدها، ستدلّ المتلقي أننا أمام قاص يسعى لإعادة هذا الفن الضال -القصة- الذي يكاد يُنسى ويخرج من دفتر الكتابة لصالح أشكال إبداعية قصصية جديدة، وأنواع أدبية سحبت كلّ البساط من تحت قدمي القصة القصيرة التي من النادر اليوم أن تجد كاتباً يخلص لها، بل كانت تُشكّل على الدوام عتبة أو بوابة عبور صوب فضاءات إبداعية مُغايرة.
حتى اليوم يبدو فيصل أبو أسعد من القلة المخلصين لفن القصة القصيرة، فقد سبق مجموعة "سلوى المتحف" ثلاث مجموعات قصصية: "حلم بطعم النعناع، تلوحُ كباقي الوشم، وطعام الأرملة". ما يجمع بينها، أن القاص استطاع أن يطوّع لغة الشعر لإنتاج القصة القصيرة، أو هو استعار لغة الشعر ليقدم حكاياته الشعرية، تلك الحكايات الناعمة رغم مساحة الخيبة والجرح في تفاصيلها، مع ذلك فهو قدم قُصارى القول دون مناحة أو ولولة.
----