"كانت في حارتنا شجرة تحملُ ثماراً شهية، عندما شاخت رميناها بالحجارة، فلم تنبت في حارتنا، منذ ذلك اليوم، أشجار لها ثمار شهية". هذه واحدة من عشرات القصص القصيرة التي ضمتّها مجموعة القاص عمران عز الدين أحمد "يموتون وتبقى أصواتهم"، والتي اتخذت القصة القصيرة جداً اتجاهاً لها.

في هذه المجموعة، سيبقى عز الدين مخلصاً لهذا الشكل من القص إلا قليلاً، سواء بطول القصة، أو بالحدث، والخاتمة التي تنشد الدهشة، أو الخاتمة التي تختزن مقولة القصة كلها، فهي قصص، وإن أوحت بالمباشرة. غير أن هذا الأمر، أو الانطباع لن يستمر إلا لبعض الوقت، ذلك أن هذه المباشرة كانت أقرب إلى ستار أو مشربية. إذاً هي مباشرة مواربة، ذلك أنها تنفتح على الكثير من التأويلات التي توفرها الحالة الرمزية التي أسبغ بها القصص، والإنزياحات في استخدام العادي في المكان غير المألوف. أدواته في ذلك المفارقة التي يختمُ بها نصه القصصي القصير، التي تأتي تماماً كمن يقذف في وجهك دلواً من الماء البارد على حين غرة أو على حين غفوة ربما. ثمّ تلك السخرية التي يوزعها لفضح المخفي الأعظم، والتي تنوسُ بين التهكّم تارةً، والخيبة والخذلان طوراً، ورغم التكثيف الذي هو سمة القصة القصيرة جداً، فإنّ عمران وجد هذا المتسع أو الحيز ليقدّم في القصة الواحدة أكثر من حكاية مثال قصته "حدث في زمن ما" (ذلك الراعي الذي سُرقت خرافه ذات نهب، تحول إلى ذئب وهو يفترس السارق، شجرة الليمون التي اقتلعوها، أوصت جذورها بالتشبث، الشجرة أصبحت حديقة وصفرة الليمون بقيت حقيقية).

شخصيات قصص عمران تأتي هي الأخرى بذات المواربة، فهي أما تحضرُ بصفاتها أو مهنها، أو بهيئة حيوانات، فأكثرَ من الفيلة والذئاب والفئران، وحتى الذباب التي حفلت بها القصص حتى كادت تتحول إلى غابة أو حديقة حيوانات، أو كانت الجمادات تقوم بهذا الدور أحياناً، وفي غيرها كان ضمير الغائب الأكثر استخداماً، وشمولاً لوصف الحالة العربية، أو الشخصية العربية المُغيبة عن أية فاعلية، والمُهشمة طول الوقت والتي تتلقى الخيبات مع كلِّ صباحٍ جديد.

صحيح أن شخصية "عبد الستار" شخصية صريحة في قصص المجموعة، إلا أن فاعلية هذا الحضور لم تكن لتغيّر من المشهد القصصي للشخصيات في شيء، وأحياناً يُخيل إلي أنّ ورودها كان أقرب لتقديم أنموذج لهذا العربي بالصوت والصورة، فالتراجيديا ذاتها، التي جعلت من الحضور أكثر غياباً (كان عبد الستار، يحلمُ منذ طفولته أن يتكلم جميع اللغات، لأنه سمع جده ذات يومٍ يقول: إن كل لغة تعادل رجلاً. وقد اجتهد عبد الستار وأتقن كثيراً منها، وعندما سُئلَ ذات يوم عن لغته الأم، اكتشف أنه يجهلها تماماً). لم تكن كلّ القصص تخوض في الاجتماعي والسياسي فقط، بل خصص الكثير من القصص للواقع الثقافي الذي تغلب عليه سمة الكوميديا، وأحياناً الهراء الأقرب إلى الحالة الكرتونية والرسوم المتحركة وشيء من العبثية أيضاً في هذا الصراع على الفتات فيما "الثقافة" في مكانٍ آخر.

ثمة أمر لافت في قصص عز الدين، وهو إصراره على المتواليات القصصية التي هي قصص عادية، وزّعها فقراتٍ بأرقامٍ، أو بأحرفٍ أبجدية، وقد أكثر من هذه دون خشية الخروج من "فضاء" الـ (ق ق ج)، وهي قصص متنوعة تأخذُ عنواناً واحداً، تارةً يكون ثمة رابطٌ ما يمسك فيما بينها، وأحياناً لا شيء يربط بينها سوى العنوان، والترقيم فقط، وهذا شكل من القص اختُلفَ بشأن تصنيفه إن كان قصةً عادية، أم تنضوي في إطار القصص القصيرة جداً.

أقول إنّ عمران في قصص المجموعة التي كتب إلى جوار عنوانها على الغلاف (قصص قصيرة جداً) أخلص لهذا الشكل إلا قليلاً، ذلك أن هذا القليل خرج به إلى أشكالٍ أخرى، ربما لأنّ عمران المعجب بهذا القليل، أراد أن يستغل فرصة النشر، فكان أن ضمنّها في المجموعة، عندما أخذ بعضها التكثيف باتجاه القصيدة الومضة بعد أن "ضحت" بالحكائية، التي هي شرط القصة القصيرة جداً، ولا أظن أنه يختلف معي في هذه النقطة. وكان حريٌّ به لو انتظر وأصدرها بمجموعة مستقلة كقصيدة، وليس كقصة، كما افتقدت المجموعة إلى تبويب تلك القصص التي ازدحمت فيها، بحيث أنّ القصص التي تتماثل في أغراضها، تكون ضمن باب واحد، ويبقى الأمر وجهة نظر بالتأكيد.

----

الكاتب: عمران عز الدين أحمد

الكتاب: يموتون وتبقى أصواتهم

الناشر: دار التكوين، دمشق