في كتابه "فن القصة من الملحمة إلى الومضة"، يُقارب الدكتور زهير سعّود من حيث الاستفاضة والتوسع الكتب الموسوعية، وذلك في ملاحقة فن القصة القصيرة منذ نشوئها الملحمي وحتى تكثيفها الأخير في القصة القصيرة جداً.
خلال فصول عديدة يُخوّض الباحث في تعدد مظاهر الحكاية والقصة سواء كانت مستقلة بنفسها، أو من خلال اعتماد الأنواع الإبداعية الأخرى على القصة القصيرة في بناء عمارتها الإبداعية، وحتى من خلال اشتباك وتشابك هذا الفن الإبداعي – المغتاظ وحتى الضال مع الأنواع الإبداعية من آداب وفنون بصرية، إلى درجة يبدو أن ثمة تماهياً أحياناً لا سيما إذا ما عرفنا أنّ نشوء الإبداع عامة، أو الإبداع الأدبي مطلق إبداع؛ كان من جذرٍ واحد أساسه الحكاية، وكأنّ الإنسان ولد ليحكي ويروي، وقد ولد الإنسان قاصّاً يحكي تجاربه الحياتية وطموحه إن كان تمّ له ذلك شعراً أم نثراً، وقد سبق أن صرّح يوماً غابرييل غارسيا ماركيز عن تجاربه في كتابه "عشتُ لأروي".
وينقسم كتاب "فن القصة من الملحمة إلى الومضة" إلى قسمين: الأول تطور فن القصة القصيرة وأنواعه وأغراضه وشواغله وماهيته، والقسم الثاني مآل القصة الأخير في فن القصة القصيرة جداً، حتى ليبدو أن القسم الأول كان تمهيداً طويلاً للوصول إلى ظاهرة فن القصة القصيرة جداً منذ إرهاصاتها الأولى في بداية القرن العشرين وحتى استقرارها في جنسٍ أدبي مستقل وماكر وذلك بأخذه جماليات معينة من كلِّ إبداع، ومن ثمّ ليأخذ ملامحه الأخيرة، وهو الفن الذي لا يهدأ ينقلب على واضعي شروطه ومتجاوزاً كل محاولات تقعيده.
في هذه المسيرة الطويلة، يُلفت الدكتور سعّود لأكثر من ظاهرة، منها مثلاً الأطراف التي تتشكل مع بداية كل ظهور لإبداعٍ جديد يُحاول أن يُشكل ظاهرة في المشهد الثقافي والإبداعي، حيث غالباً ما ينقسم المتلقون له إلى ثلاثة أفرقاء: المتحمس، والرافض، والمتردد، مع إمكانية تبادل الأدوار مع مرور الزمن، فقد يُمسي الرافض مشجعاً، وقد يذهب المتحمس للتردد، ويصبح المتردد متحمساً وربما رافضاً.
في هذا البحث الطويل في فن القصة، سيعرفنا الكاتب على أولى ملامح فن القصة، ومن أي الأرحام كانت ولادتها، والمكابدات الطويلة للتخفيف من الثرثرة وغواية السرد للوصول إلى "بيت القصيد" ومناخات "ما قلّ ودل"، والذي كان سعي مختلف أنواع الإبداع الذهاب صوب النص الوامض والتخلص من الإطالة والاستفاضة، فقد شكلت حادثة احتكاك غيمتين متعاكستي الشحنة والشرر الضوئي الناتج عن هذا الاحتكاك استعارة لمقاربة هذا الومض الخاطف بالنص الخاطف الذي يبدعه خيال خاطف أيضاً.
وليس الومضة هي غاية بحدّ ذاتها، بقدر غاية تقديم المتعة التي هي هدف كلّ عمل إبداعي، وذلك حتى يتولد الحماس الذي من خلاله يكمل المتلقي مشروع المتابعة.
وفي العودة إلى تاريخ القصة القصيرة ونشأتها، فإنّ أوّل ملحمة في التاريخ نشأت قبل ميلاد المسيح بستة قرون على الأقل، وهي ملحمة جلجامش المكتوبة في اثني عشر لوح طيني، وفي تفاصيل البحث التاريخي يكشف الباحث على أن أوّل رواية كُتبت في التاريخ ليست أوروبية كما أشيع، بل هي أمازيغية، وعنوانها "الحمار الذهبي" لمؤلفها لوكيوس أبوليوس، وقد كتبها في القرن الثاني الميلادي، فيما أوروبا لم تكتب الرواية قبل القرن السابع عشر على يد ميغيل سيرفانتس، وهي رواية "دون كيخوت"، كما ليس أول كاتب رواية عربية هو المصري محمد حسين هيكل كما أشيع أيضاً، وليست رواية "زينب" 1914، هي الرواية العربية الأولى، بل كان صاحب أول رواية عربية هو الكاتب الحلبي السوري فرنسيس فتح الله مراش مؤلف رواية "غابة الحق" سنة 1865 والبعض يقول إن السبق الروائي العربي كان للكاتبة اللبنانية زينب فواز صاحبة رواية "حسن العواقب" سنة 1899. إلى أن جاء صاحب قصة "في القطار" المصري محمود تيمور (1894 – 1921) ليكون صاحب أوّل قصة في العالم العربي. أما من أسس لأول قصة قصيرة جداً فكان الكاتب الروسي تشيخوف (1860 – 1904) والتي كانت قائمة على الرمزية، الرمز الذي كان من أهم ملامح القصة القصيرة جداً.
والقصة التي هي في أبسط تعريفاتها: مجموعة من الأحداث التي تُدار بعدد محدود من الأشخاص في بيئة زمانية مكانية مناسبة لغاية ما، تخدمها بقية العناصر الأخرى. وهذا ما ستضحي القصة القصيرة جداً بالكثير منه، القصة القصيرة جداً التي لم تُعرف قبل العقد الثالث للقرن العشرين، وهو إنتاج غربي أمريكي كما معظم فنون الإبداع باستثناء الشعر والعمارة، حيث لمع هذا الجنس الأدبي في خصوصيات الصيغ الكتابية لما بعد الحداثة، وكان ذلك يوم أطلق الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي هذا الجنس الأدبي سنة 1924، وأوصى بكتابة قصة من ست كلمات، وتحديداً عندما كتب قصته "للبيع" وماثلها قصة تشيخوف التي اعتمد نصها على واحد وخمسين كلمة. تقول قصة همنغواي "للبيع: حذاء طفل، لم يُلبس قطّ"، فيما اعتبر الكاتب الغواتيمالي الذي عاش في المكسيك أوغستو مونتيوسو (1921- 2003) صاحب أقصر قصة قصيرة جداً مبدعة، واسم القصة "الديناصور" التي تقول: "عندما استيقظت وجدت الديناصور مازال هنا".
القصة القصيرة جداً التي لم تُعرف عربياً قبل العقد الأخير من القرن العشرين وذلك بترجمة المصطلح الأجنبي قصة ما بعد الحداثة أو قصة "المايكرو". هذا الجنس الإبداعي الذي استقال عن مختلف الأجناس الإبداعية اليوم من دون أن يقطع حبال المشيمة مع الكثير منها سواء بالشكل أو البنية وحتى بالتراكيب، فقد اعتمدت القصة القصيرة جداً أساليب الأعمال الروائية لما بعد الحداثة، واكتسبت جماليات من خرقها المألوف في الأنسنة وإنطاق الحيوانات والأموات والجماد، إضافةً إلى استخدام طرائق الأساطير والابتعاد عن السرد الحكائي المُنتظم.
----
الكتاب: فن القصة من الملحمة إلى الومضة