تختار الروائية المصرية نعمات البحيري، حيّاً شعبيّاً على أطراف القاهرة، ورغم اكتظاظ المكان وضيقه بكلِّ شيء: بشر من كلِّ صنوف القهر، رجال، وأطفال ونساء من الأعمار والمهن كافة.
يصير هذا الحيز الضيق من الجغرافيا، والمنسي من صفحات التاريخ، عالماً شاسعاً من ناس القاع، وهي تحفرُ فيه شاقوليّاً، وأفقيّاً، تلاحقُ كائناته بما فيها (الحيوانات)، التي لا تشبه حيوانات أخرى لهزالها وجوعها، تماماً كقاطنيها من البشر الذين سُدّت الآفاق رغم رحابتها في وجوههم باستثناء وجهتين: العمل عند النساء المترفات في (السابع)، والذي يُعتبر (بلوك الغجر) – مسرح الرواية، مكبّاً لكلِّ نفاياته، أو كما تصفه ليس أكثر من دورة مياه للسابع، وثمة وجهة أخرى بلاد الخليج العربي.
أفقان، كانا آخر ما يُمكن أن يتطلع إليه ساكنو (البلوك)، الذين يظهرون على مسرح الرواية بالعدل من خلال سرد نعمات البحيري على مدى الصفحات حيث القهر والظلم واحد، لكن بحكاياتٍ كثيرة.
ولتُعطي البحيري مزيداً من الواقعية للمشاهد التي تستعرضها في الرواية، تبدأ من (الإهداء)، إهداء جاء تفصيلاً لمكان ما، وكأنه عنوان بريد: "إلى جدران الشقة 302، عمارة 28، مجاورة 8 بالحي الحادي عشر بمدينة السادس من أكتوبر؛ علها تُدافع عني ضد الحمق والغباء والمرض. إلى كائنات بلوك الغجر، الذين يعشقون الحياة، وهم جديرون بها"، وكأن الراوية في سردها لراوية "العاشقون"، توجه رسالة، يُمكن تأويلها بعشرات التأويلات لناس تصفهم بأنهم جديرون بالحياة، غير أن كلَّ السبل حالت دون ذلك. ربما من هنا كان الاسم، أو العنوان لهذا (المكتوب)، "بلوك الحجر"، البلوك الذي يعني فيما يعني من: صمت، وسدم، وإغلاق، وغيرها من رموز توحي كلها بانسداد الأفق، رغم أن إضافة مفردة (الغجر) ربما توحي بالاتساع والحرية، لما عُرف عن حياة هذا الشعب الذي يسخر من الحدود، والأفق الضيق، ويعيش الحياة بمنتهى العفوية والبدائية، رغم كل الصفات التي تُلصق بالغجر، والتي تُسجّل في مدونة "الشتائم".
هنا في (بلوك الغجر)؛ حيث كلّ السكان جاؤوا معاً من دون أن يختاروا، ليسكنوا نفس البلوك، والذي سُميّ فيما بعد "بلوك الغجر". في هذا المكان، الموحل والمترب، والمغبر على مدى الفصول، ليس للمرء غير سيرة مفتوحة لكل قصص التأليف على ألسنةٍ لنساء عاطلات عن الحياة، إلا الثرثرة الطويلة. مكان مُبتلى بـ"عوض"، عوض بشقته المشبوهة التي حولها لما يُشبه مقهى المزاج لكلّ من يملك مالاً ويهوى الفرفشة والمزاج، و"شجرة عوض"، أو شجرة الكلام، التي غرسها يوماً في هذا المكان اليابس والجاف والحارق، والتي تُشكّل ظلاً لمن يجلس تحتها من هؤلاء الذين لا يستطيعون دخول شقة عوض، حيث يصبح الجميع في مرمى الألسنة لا سيما النساء، ولن تسلم من هذا القذف، لا الحرة، ولا عابرات السرير، فإذا كانت بلوك الحجر "حلة" فعوض هو مغرفتها، وهو المحرك الذي يلعب بمصائر محتوياتها.
هذه الرواية التي تُكثر نعمات البحيري من أبوابها، رغم حجمها الذي يميل للصغر، حيث تعنون الأبواب بشخصيّات؛ شخصيات تصر هي الساردة على أن تروي حكايتها، حكايات مفعمة بالخيبة والمرارة والخذلان، ومن ثم تكثرُ الأصوات في الرواية، وهي أصوات نسائية بالدرجة الأولى، حيث كل امرأة تروي حكايتها مع عوض وشقته وشجرته، مع فضاء خارجي من الاستغلال يمارس عليهن في وجهاتن صوب الحي السابع، أو الخليج، حيث الجميع في النهاية يحملُ حكايته ويختفي.
هنا ثمة حالة "غجرية" غريبة، لاختفاء أصحاب هذه الأصوات، والحكايا التي بنت الروائية سردها على قصص خذلانهم، غير أنها تمنحهم جميعاً "نعمة" الاختفاء في النهاية، حيث لم نعد نعلم عن مصائرهم أمراً إلا من باب التكهنات والاحتمالات التي ترويها نساء شجرة الكلام، أو شجرة عوض. هكذا ستختفي صباح الفتاة الوحيدة في البلوك التي حاولت أن تجد لنفسها مصيراً مختلفاً، وهي أن تدرس وتتعلم وتنال الشهادة الجامعية مفضلةً الطريق الطويل، بعكس فتيات البلوك، غير أن المفارقة، أنها التقت معهن كلهن على نفس الأرصفة، أرصفة الهوان والضياع والاضمحلال. هكذا ستختفي صباح بعد ذلك، وصفية، وصفاء، ورجاء، ونوال، وعشرات النساء غيرهن، وحتى عوض نفسه، بعد أن هجرته أحبَّ النساء إلى قلبه. يختفي الجميع، وتبقى حكاياتهم بنهايات مفتوحة لمختلف الخواتيم من تأويلات واحتمالات وتكهنات.
في سردها اعتمدت البحيري، على وصف مختلف، وصعب جداً، ذلك إنها ابتعدت عن أن يكون شاعريّاً في عالم يخلو من الجمال والشاعرية، ومع ذلك ابتعدت أن يكون مباشراً وتسجيليّاً، وهنا كان مكمن الصعوبة، وهنا أيضاً كانت الفاعلية الإبداعية للكاتبة، ولعبتها اللغوية التي اختارت أن تقدمها مشاهد؛ مشاهد وكأنها تكتب بعين الكاميرا، واصفةً المكان وناسه، وتصورهم بأدق تفاصيلهم لتصل حتى روائحهم. تبدأ بالشخصية من شكلها وحركاتها، ومن ثم تدخل جوانيّاً في سلوكها ونوازعها، وقلقها وخوفها وحتى شهوانيتها وشبقها، وغير ذلك، من دون أن تنسى الفضاء المكاني الذي تعيشُ فيه، ويُحيطُ بها، مقدمةً عالمها من دون نسيان أي تفصيل.
تصف البحيري (بلوك الغجر) على لسان إحدى الشخصيّات بما يلي: "مبانٍ كالحة اللون، مقشورة الطلاء، تُشبه ثكناتٍ عسكرية قديمة، أو مستشفى للأمراض العقلية، أو سجون الاستئناف، أو مستعمرات للتعذيب. وأنا أكابدُ السير في ترابِ الجبل، ينتابني شعورٌ دائم ومقيم، بأنّ مدة العلاج أو السجن، أو التعذيب لانهائية".
ربما قد يبدو عالم نعمات البحيري صغيراً عندما تختار مكان ما دون غيره لسرد الحكايا، لكن هذا ما يبدو للوهلة الأولى، ذلك أن هذا العالم الذي تتناوله كاتبة متمكنة من تشكيل صورتها الفنية، ليس إلا عينة تخصُّ عالماً واسعاً، قلما تخلو منه دولةً في هذا العالم الكبير على هذا الكوكب. كاتبة لا تخونها إجادة التفاصيل. ذلك أننا سنقرأ في وجوه هذه الشخصيّات قسماتنا نحن، الذين نسكن الهامش، ونعاني الوحدة والاغتراب، ونحن نتجرع الأسى كما قهوة الصباح.
----