ربما قليلون هم المبدعون الذين توفر في موهبتهم كل هذا الشغف في إبداعٍ واحد، بحيث أحاطوا بمختلف جوانبه، مثلما توفرت للموسيقار فريد الأطرش في مجال الأغنية حيث جمع مجدها من الأطراف كلها تقريباً؛ اللحن، الغناء، والتوزيع الموسيقي، إلى درجة كانت غاية حياة أخلص لها طول عمره، وأظهرها على مختلف المنابر التي توفرت له في زمانه. هذا الفنان وبعد أن استوت له الألحان، لم يغنِ من ألحان غيره سوى ثلاث أغانٍ، وبعدها استمرّ في التلحين لنفسه في كل أغانيه وعلى طول تاريخه الفني.
عندما يُذكر فريد الأطرش (1915 – 1974م) ترتبط به كلماتٌ بدلالات واسعة في حياتنا، فهو الفنان العازف الماهر، وهو المُلحن المُبتكر، وهو المُغني الذي يُعبّر بعمق، وهو أيضاً الممثل الذي أشهر الأغنية في السينما.
وفي كتابه "فريد الأطرش"، يقول الدكتور فائز الداية عن فريد الأطرش: هو فنان عالمي سمعته جماهير في بلادٍ عديدة، وعُزفت ألحان له، وغناها مطربون ومطربات بلغاتٍ كثيرة، منها الفرنسية، الروسية، الفارسية، التركية، الإسبانية، واليونانية. هذا الفنان الذي ينتمي إلى أسرةٍ عريقة سورية، ولد في "القريّا" قرب مدينة السويداء سنة 1915م، وكان والده القائمقام فهد الأطرش على درجة من العلم والثقافة خلال الاحتلال العثماني للبلاد العربية، وكانت أمه علياء المُنذر من أسرة مرموقة في جبل لبنان؛ حيث تكونت الأسرة من: فريد وأخيه الأكبر فؤاد، وأخته الأصغر آمال التي عُرفت بـ "أسمهان" إضافة إلى عدد من الأخوة غير الأشقاء.
ومن تاريخ مولده، يظهر أنّ فريد الأطرش ولد في زمن عاصف – خلال الحرب العالمية الأولى، فقد اضطر والده إلى إرسال عائلته من تركيا حيث يعمل هناك بالباخرة إلى بيروت وعلى متنها كانت ولادة شقيقته أسمهان سنة 1917م، ومع جلاء احتلال – العثماني، ومجيء احتلال آخر – الفرنسي- وانخراط الوالد في حرب المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين وسلخ لواء لبنان عن سورية؛ كان قرار والدة فريد الارتحال إلى مصر عن طريق فلسطين، حيث مكثت العائلة بحماية رئيس وزراء مصر سعد زغلول لفترةٍ من الوقت. وفي مصر لم تفتح الحياة أبوابها للفتى السوري إلا متأخرة، فقد اضطرّ فريد الأطرش لأن يقطع دراسته سواء في الدراسة الثانوية، أم دراسته في المعهد الموسيقي، وذلك بسبب توزيع وقته الطويل في العمل لتأمين الحياة اللائقة لأسرته.
لقد التقط الأطرش – يُضيف الداية في سرد مسيرة حياته- خبرات فنية عالية في العزف على العود من بيئته القريبة في البيت، لا سيما مع أمه التي توسعت نشاطاتها وسجلت عدداً من الأغاني على أسطوانات، ومن ضيوف الأسرة وأصدقائها من الفنانين المشهورين في التلحين والعزف مثل فريد غصن، ومحمد القصبجي، وداود حسني. وحينها صار العود صديقه لا سيما من خلال انضمامه إلى فرق موسيقية منها فرقة مطرب مصري شهير حينها هو إبراهيم حمودة، إلى أن فتحت الفنانة بديعة مصابني المجال أمامه في كازينو يقدم الغناء والمشاهد التمثيلية إضافة إلى عروض فنية مختلفة. وفي هذا الكازينو ارتقى شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى تقديم أغانيه أمام الجمهور. وكانت فرصته الكبرى عندما سمع أداءه مُلحن كان مديراً للقسم الموسيقي في الإذاعة المصرية ذات الانتشار الواسع سنة 1934م، وهو مدحت عاصم فكلفه بالعزف أسبوعياً، وحينها أخذ جمهور الإذاعة الواسع يلتفت إليه، ثم أتاح له الغناء بعد أن اجتاز اختباراً حضره موسيقيون كبار سنة 1936م، واختار حينها أغنية بعد تعديل كلماتها كان لحنها موسيقي من فلسطين هو يحيى اللبابيدي هي (يا رتني طير). وبعد لحنين لمدحت عاصم، أخذ فريد يُلحن لنفسه، ولم يُقدّم أي لحن لموسيقي آخر بعد ذلك. وسجلت سنة 1939م ذروة انتقاله إلى المرتبة الأولى بجوار محمد عبد الوهاب وأم كلثوم عندما دعي للمشاركة في حفل ساهر يُنقل لأول مرة على الهواء مباشرة من سفح الأهرام في الجيزة المصرية قرب القاهرة، وكان حدثاً مدهشاً جمع الناس حول أجهزة الراديو. دُعي على أثرها ليُسجّل أغاني لإذاعة لندن في إنكلترا، وليعود بعدها بكل حماسة إلى مصر وقد فتحت الأبواب أمامه للدخول في مجال السينما التي كانت قد أمست ناطقة وكانت الأفلام الغنائية من أهم الأعمال لإقبال الجمهور عليها. وجاءت الفرصة المهمة سنة 1941م، وهي أن يُقدم فريد الأطرش وأخته آمال فيلم (انتصار الشباب) حيث تمّ تكليف فريد تلحين كل أغاني الفيلم، وخلاله كشف عن إمكانات فائقة لصوت أسمهان (1917-1944م)، ومع إنجاز هذا الفيلم يبدأ فريد الأطرش الطريق السينمائي عبر أفلام استمرت حتى آخر حياته (1941-1974م) وبلغ عددها واحداً وثلاثين فيلماً، وقد أنشأ شركة للإنتاج قدمت تسعة أفلام منها.
وفي هذه المسيرة، يذكر الداية نقطتين، الأولى: إنّ فريد الأطرش أصيب بعارضٍ صحي خطير سنة 1955، ظلّ يُعاوده في السنوات التالية، وقد خففت همته العالية وحماسته من آثار هذا المرض، والنقطة الثانية: هي قدرته على التكيّف مع الظروف المُتبدلة التي واجهها في حياته حيث الصعوبات الاقتصادية جعلته يُقيم معظم وقته في بيروت في المرحلة الثانية من حياته إلى أن توفي فيها سنة 1974م.
استفاد فريد الأطرش من المجال السينمائي الذي أتاح له تأليف مقطوعات موسيقية تُعبّر عن حالات انفعالية وعدد منها يجري في أجواء شرقية قديمة كالقصور، وهناك مقطوعات للآلات في مواقف عصرية منها مقدمة أغنية (حبيب العمر) في فيلم يحمل الاسم نفسه. لقد استطاع فريد الأطرش أن يجعل ما يأخذه من بعض الألحان العالمية ذات طابع شرقي، وقد أشار بنفسه إلى هذا، كما طوّع بعض الألحان التي تؤدى بالآلات الغربية لتُعزف على العود كما في مقطوعة "استورياس" لمؤلفها (ألبينيز) التي جاءت في مقدمة أغنية (حكاية غرامي). وفي المقابل نجد أنّ الألحان الأصلية لفريد، هي التي تُعطي الأنغام العربية وبجمل موسيقية لامعة اجتذبت الموسيقيين في العالم ليغنوها، أو لتعزفها فرق سيمفونية، وتُسجل على أسطوانات منها فرقة الفنان "فرانك بورسيل" (يا زهرةً في خيالي، حبيب العمر، ومعزوفتا: ليلى، وزمردة). وكان الموسيقار وليد غلمية قد أشار إلى أن أعمال فريد الأطرش الموسيقية والغنائية بعباراتها وجملها اللحنية، هي الأبرز في قابليتها لتُعزف أوركسترالياً. تمتاز بعض أغاني فريد الأطرش بالطول والألحان المُركبة العميقة بأساليب شرقية وتقنيات غربية سيمفونية، وبعدد كبير من العازفين وفي مرات تكون الجوقة/ الكورال جزءاً من الأداء مع كلمات النص المُنتقاة: (نجوم الليل، بنادي عليك، الربيع، أول همسة، حكاية غرامي)، وهناك عدد، وهو الأكثر، من الأغاني الخفيفة والبسيطة بلحنها وزمانها وكلماتها: (الحياة حلوة، إياك من حبي، ارحمني وطمني، فوق غصنك يا ليمونة). وبسبب طبيعة العمل السينمائي أضاف فريد الأطرش فروعاً للغناء مُتناسبة مع الدراما والقصة السينمائية وأحداثها. غنى بنفسه أكثر من مئة وسبعين عملاً، كما لحن ما يُقارب من مئة عمل غنائي للمطربين والمطربات من مختلف العالم العربي.
----