لغير سبب يعود الباحث السوري غالب المير غالب، إلى الزمن الفاطمي – أحد العصور الإسلامية- الذي امتدّ طويلاً وعميقاً في الزمن والجغرافيا، وغايته في عودته لذلك الزمن الإسلامي البعيد، ليُسلط الضوء على الجوانب الجمالية لذلك العصر التي يقصرها على العمارة، ومن خلال دراستها، سيتعرف القارئ على ثقافة ذلك الزمان الروحية والفلسفية وحتى الاجتماعية.

وفي بواعثه لتلك العودة إلى العصر الفاطمي، - حيث جمّع حصيلتها في كتابٍ بعنوان "العمارة والزخرفة في العصر الفاطمي"- يأتي ضمن مشروع لدراسة تنوّع العمارة الإسلامية وتأثرها بالعمارة السورية القديمة، ذلك أنّ العمارة الإسلامية ليست عمارة واحدة منسوخة في كلِّ البلاد التي حكم فيها الإسلام، وذلك بسبب توسع تلك الديار، الذي أدى إلى تنوّع العمارة واختلاف عناوينها، كنتيجة لاختلاف في فهم وتفسير العقيدة بين البلدان الإسلامية، وكذلك تأثير الزمن وتطور العقل المُنتج لتلك العمارة.

إضافةً إلى أهميّة الفكر الفاطمي الذي له وقع خاص في نفوس السوريين باعتباره خرج من رحم سورية - من مدينة السلمية- وانطلق في بلدان شمال أفريقيا، واستقر أطول مدة في مصر، وتأثرت به بلاد الشام، ومن ثمّ فإن العمارة الفاطمية لا تزال أكثر وضوحاً في بلاد النيل. هذه العمارة التي أهملت برأي الكاتب عن عمد، وهي من أكثر الفنون العمرانية التي تعرضت للإيذاء والتشويه عبر التاريخ الإسلامي وكتب السير والتراجم، تلك الكتب التي تعمدّت نسب ما تركه الفاطميون إلى غيرهم من صُنّاع الدول، حتى يظهروا عكس الحقيقة. وقد كانت مدينة (المهديّة) التي أقيمت فوق تلة صغيرة على البحر مُباشرةً وتطلُّ عليه من ثلاث جهات بين عامي (303 هجرية -308 هجرية) وتبدو للناظر بجمالية وخصوصية منفردة؛ هي أوّل مدينة بناها الفاطميون في شمال أفريقيا – المغرب العربي، وأول المنشآت الحقيقية ذات الطابع الحربي، ومع ذلك جعلوها مركزاً تجارياً، وكانت فيها دار للصناعة. وفي فتوحاتهم باتجاه مصر، بنى الفاطميون العديد من المدن والحصون مثل: إجدابية وبرقة في ليبيا، إضافة إلى بنائهم جامع طرابلس وسوراً لمدينة صبرة التي سُميّت فيما بعد المنصورية وتجديد مدينة القيروان، وهكذا سلسلة من المعالم والصروح العمرانية تمتدُّ من المغرب إلى مصر، وفي الأخيرة تبدو أبرز صروحهم العمرانية، ولعلّ أبرزها مدينة "قاهرة المُعز لدين الله" التي أنشئت كتوسيع لمدينة الفسطاط القديمة، أو ضاحية لها لكنها مُحاطة بسورٍ يفصلها عما حولها، والتي من أهم عمارتها الباقية إلى اليوم، هو صرح الأزهر في القاهرة. وكان جوهر الصقلي – قائد عسكري لجيش المُعز- قد فتحها سنة 358هجرية-969ميلادية.

ولم ينسَ المعماري الفاطمي الشروط التراثية خلال عملية بنائه المدن، فقد جهد في جلّ أعماله لإظهار هذا التراث وخاصة الإسلامي منه ضمن تفاصيل واجهات المباني، والتوزيع الداخلي، ومن خلال الزخارف والمُحسنات المعمارية، وهذا ما أعطى العمارة الفاطمية خصوصيات أثرّت على جمالية المبنى المعماري.

فقد دانت مصر للحكم الفاطمي ما يُقارب من قرنين كانت وجهة النظر العلمية والثقافية والعمرانية من أكثر الفترات مجداً في تاريخ مصر، حيث عُرفت هذه العمارة بتوسيع استخدام صور الطيور والحيوانات وحتى الإنسان، كما توسع الاعتماد على العقود الحاملة للأسقف والقباب في العمارة الفاطمية بشكلٍ كبير، وظهرت بعض أنواع العقود لأوّل مرة، كالعقد المستقيم الظاهر في الجدران الخارجية في جامع الحاكم بأمر الله مثلاً، كما ظهرت عقود أخرى عُرفت فيما بعد بالعقد الفاطمي، وهو المكوّن بين قوسين ومُستقيمين مُماسين للقوسين، ويتقاطع المستقيمان مع بعضهما عند قمة العقد، وهذا النوع موجود بكثافة في جامع الأزهر، بالإضافة إلى ظهور العقد ذي المراكز الأربعة الذي يصعب تمييزه عن عقد المُماسات، وللمقرنصات مكانة رفيعة في المباني الفاطمية التي هي عبارة عن تزيينات معمارية تُشبه الصواعد والنوازل بما يُشكّل تاجاً لا سيما في المساجد والحمامات. كما عُرفت الباشورة – المدخل المُنكسر- لأول مرة في العمارة الفاطمية، والتي استخدمت في البداية كوسيلة دفاع، والكثيرون يعتبرون المشربية ابتكاراً فاطمياً إسلامياً خالصاً، يحملُ بعداً جمالياً، وهدفاً معمارياً يتمثل بتهوية المنازل وإضاءتها وحفظها عن أعين المارة في الشوارع، وعشرات الابتكارات الأخرى التي لا تزال واضحة فيما بقي من أسوار وجوامع وحمامات وقصور وجسور وترع وقنوات ري، وغيرها. وتكمن القيمة الجوهرية في هذه الفنون في إيقاعها وتجريدها، وما يُصاحب ذلك من إحساسٍ موسيقي. ومن هنا لم تكن مهمة الفن الإسلامي نقل المرئي، بل إظهار ما هو غير مرئي، أي ليس اختصاراً واختزالاً كما يحدث اليوم في الفنون الجميلة بحجة التجريد. كلُّ ذلك في محاولة للإحساس بالقوانين الرياضية التي تحكم هذا الوجود.

يُشار إلى إن مدينة سلمية السورية، كانت عُرفت منذ عهدي السومريين والعموريين بين عامي 2400ق.م و2000ق.م، وفي أواخر القرن الثاني الهجري، أتى إليها الدعاة الإسماعيليون، وكانت مدينة مُحدثة بناها محمد بن عبد الله بن صالح عندما أخرجه الخليفة من بغداد، وفي مطلع القرن الثالث الهجري أصبحت سلمية مركزاً رئيسياً لدعوة أئمة الإسماعلية المستورين، وأولهم كان الإمام الوفى أحمد، ومنها انطلقت رحلة الإمام عبد الله المهدي لتأسيس الدولة الفاطمية في المغرب.

----

الكتاب: العمارة والزخرفة في العصر الفاطمي

الكاتب: غالب المير غالب

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق