ثمة غبنٌ كبير يلحق بالناقد بشكلٍ عام الذي يبقى طول الوقت يُتابعُ أعمال المُبدعين، دون أن يولي أحد نتاجه الذي في كثيرٍ من الأحيان لا يقلُّ عن إبداع من يُتابع أعمالهم بالنقد والإضاءة وتقديم ذلك النتاج الإبداعي، سواء للمشهد الإبداعي نفسه، أم بتقريب ذلك الإبداع وتبسيطه للعامة.

يبدو الغبن الواقع على الناقد التشكيلي مُضاعفاً، ذلك أنه وبحكم ندرة النقاد المُشتغلين في مجال النقد التشكيلي، فإن العبء الواقع على عاتق الناقد التشكيلي، يبدو كبيراً نظراً لاتساع الحركة التشكيلية السورية المُعاصرة من تراكم ومدة زمنية. ونظراً لنخبوية الفن التشكيلي، هنا تبدو الصعوبة في مهمة الناقد التشكيلي كـ"مُحارب" كبير في الخوض بكلِّ الاتجاهات، وفي مختلف الفنون الجميلة.

والكتاب الصادر بعنوان "طارق الشريف"، الذي يأخذ شكل فخامة "الكتالوغ" الملوّن من القطع الكبير؛ هو من الكتب النادرة التي تُكرّم جهد الناقد التشكيلي وتحتفي به، حيث تتشعب مواضيع هذا الكتاب بين الجانب الإنساني لمسيرة الناقد الشريف، وتاريخه المهني، الذي يتنوّع بدوره بين شهادات في شغله النقدي، وبعض الملفات التي تناولها نقدياً، وسلسلة من الحوارات التي أجريت معه.

في ملف النقد الفني، يذكر الراحل طارق الشريف: تتعدد وجهات النظر التي تناولت واجبات النقد الفني، ويجده أنه ليس عبارة عن قوالب مستوردة جاهزة من الأحكام التي نقدمها للحكم على الأعمال الفنية، وليس نقلاً لمفاهيم فنية ونقدية عالمية علينا الخضوع لها، وكل ما نحتاجه نقد محلي له من المفاهيم والمنطلقات التي تخدم قضايانا، وله من التوجهات التي تُساعد على بلورة فنوننا وتقديمه إلى العالم. ويبدو هذا ما كانت شواغله خلال عمله النقدي لأكثر من نصف قرن، أنجز الشريف خلالها عشرات الكتب في النقد التشكيلي، ومئات المقالات النقدية في تجارب عشرات الفنانين التشكيليين.

وطارق الشريف (1935-2013) خريج كلية الفلسفة كان الساعي دائماً للموائمة بين التأثيرات الغربية المُعاصرة، والإرث المحلي، وهذا ما تجلى في كتابه "عشرون فناناً من سورية" الذي أنجزه سنة 1969، والذي كان يُتابع فيه بدايات الفن التشكيلي السوري. هذا البحث الذي أسس لمحاولته الرائدة لتأريخ هذا الفن، والتي نشرها في مطلع الثمانينيات، وكانت مُستنداً لكثير من الأبحاث والدراسات التي جاءت بعده، ومنها كتاب "الفن التشكيلي المُعاصر في سورية" الصادر سنة 1998 وأثار اهتماماً واسعاً في الوسط التشكيلي.

وهنا لا بأس أن نذكر أن الراحل طارق الشريف، كان قد تسلم ثلاثة مناصب جميعها عززت شغله في النقد الفني، أولها مديراً لمعهد أدهم إسماعيل، ومديراً للفنون الجميلة في وزارة الثقافة، وكان أول رئيس تحرير لمجلة الحياة التشكيلية.

ومن كتب الناقد طارق الشريف ما أنجزه حول تجربة الفنان التشكيلي لؤي كيالي، الذي يقول عنه: لقد أحبّ كيالي الرسم بالخط وحده، والتعبير عن طريق هذا الخط، فقد رسم كل ما يريد من موضوعات فنية، وكان هذا الخط يملك المرونة والحيوية، وذلك من أجل رسم الوجوه والمشاهد الطبيعية، فقد رسم هذه الوجوه على قماش فيه خلفية خشنة الملمس، أخذها من الرسوم الجدارية القديمة، وكان قادراً على تقديم الوجوه الشخصية عن طريق شكل يُلخص بالخط وحده، والوصول إلى المعاني الخفية التي يُريد عن هذا الطريق، وتلخيص المعالم الشخصية مما يدل على براعة مُصوّر زيتي قادر على تقديم لغة فنية جديدة تعتمد على فهم اللوحة على أنها لوحة قادرة على الإبداع والتجديد.

ومن الملفات التي اشتغل عليها الناقد الشريف، كان موضوع طالما شكّل ظاهرة في المشهد التشكيلي السوري، وهو غواية دمشق القديمة لتكون مُحترفاً فنياً على مدى الأيام، لا يكف الفنانون التشكيليون من تناولها بأكثر من حالةٍ بصرية، حيث يتساءل الشريف عن سر تعلق الفنانين بمدينة دمشق، الأمر الذي دفعهم لأن يرسموها آلاف المرات، وعبر مختلف الأساليب والصياغات، وما الذي جعلهم يؤثرونها على غيرها من المدن والموضوعات التي جسدوها في أعمالهم المختلفة، والتي جعلت من دمشق المدينة المفضلة للرسم عندهم، والموضوع الذي لا ينضب معينه، والينبوع السخي المتجدد الذي يوحي بالكثير. هذا التعلق الذي يرجعه الشريف إلى أن دمشق مدينة عريقة في تاريخها، وقد مرّت عليها من الحُقب التاريخية، ومن الأحداث والتطورات المُختلفة، ما جعلها أكثر من مدينة واحدة، إنها عدة مدن متداخلة مع بعضها، وفوق بعضها، تُعطي لكل فنان الإيحاءات التي يبحث عنها، وتُجسد أحلاماً كثيرة لعديد من الفنانين المُختلفين في رؤيتهم وأساليبهم، لهذا رسم كل فنان دمشق وعبّر عنها كل من عرفهاـ وقدّم كل فنان شيئاً يُريده، فتفاعلت هذه الرؤى مع بعضها، وأضافت لدمشق المعاني المختلفة الجديدة التي زادت من سحر هذه المدينة، ومن التعلق بها.

كتاب "طارق الشريف" يُلخص تجربة هذا الناقد المهنية، ويُكثف حياته الإنسانية، وفي النهاية يحتفي بتجربة نقدية، هي من الحالات النادرة، وإن جاءت متأخرة بعد وفاة صاحبها وانتقاله من دنيانا إلى العالم الآخر.

----

الكتاب: طارق الشريف

الكاتب: مجموعة باحثين

الناشر: مركز الفنون البصرية بدمشق