منذ العتبة الأولى لكتابه، يسأل القاص والناقد مالك صقور (لماذا الفن؟)، ولا يكتفي الباحث بأن عنون الكتاب بهذا السؤال، بل يتبعه بعددٍ مشابه من الأسئلة من مثل: لماذا ينظر الناس في الصباح بدايةً، وفي غير وقت، إلى المرآة؟
ويتابع الباحث أسئلته: لماذا تتزين المرأة في اليوم عدّة مرات، وتكاد أدوات زينتها لا تُفارقها؟ كما يسأل أيضاً: ما الذي دفع الإنسان القديم لتزيين السيوف والخناجر، مع أنها أدوات قتل؟ بل ما الذي دفع بالبعض لأن يزينوا المعابد، مع أنها دور عبادة يُفترضُ بها التواضع؟ وعشرات الأسئلة غيرها، فاضت بها الصفحتان الأولى والثانية من الكتاب.
ذلك السؤال الذي شكّل عتبة الكتاب، وتلك الأسئلة التي تناسلت منه، وقبل أن يُجيب عنها الباحث في الصفحة الأخيرة من الكتاب؛ فقد احتاجت منه أن يأخذنا إلى أزمنة بعيدة جداً، وربما أزمنة سحيقة، منذ أول كائنٍ بشري وقف على قدميه، و"شخبر" على جدران كهفه أو مغارته، في أول (محاكاة) لمشهدٍ رأه في الطبيعة من حوله، فتأثر به، وكثفه على الجدار، ليبدأ من هناك البحث في المدونة الإنسانية، شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً إلى اليوم، ليفتش عن جواب، وربما إجابات عن ذلك السؤال الرئيسي، وتلك الأسئلة التي تفرعت عنه.
فمتى شعر الإنسان بالجمال لأول مرة، باعتبار أنّ الدافع الأكيد للفن، هو السعي إلى الجمال، وربما الجمال الخالص أو المطلق، ومتى صرخ أول كائن بشري عندما رأى مشهداً، أو سمع صوتاً وقال: هذا رائع؟! ثمّ ما هو هذا الرائع؟! ومتى نقولُ عن أمرٍ ما هو (رائع)؟!
يقول: قد تبدو هذه الأسئلة صعبة عند بعضهم، وربما سهلة عند آخرين، ولكنه يضيف: ليس لأنَّ الجواب يأتي بالمتعة والراحة والسعادة، والسرور وهناءة البال، وربما التسلية أيضاً، بل لأنّ الإنسان أبداً ينزع إلى الأكمل والأحسن، والأفضل، الذي يكمن في الجميل، والرائع والجليل. وكل ما تقدّم يكمن في الفن. الفن الذي كان الإنسان صانعه ومحوره، وغايته.
غير أنّ هذه الإجابة تعود لتضعنا في مهبِّ السؤال مرةً أخرى، ونسأل بعد ذلك: إذاً: ما هو الفن؟
عن ماهية الفن، سيتحصّل الكاتب على عشرات التعريفات، غير أنها تبقى في إطار الدراسة، وتبقى غير ناجزة لتحيط بمفهوم الفن إحاطة شاملة وكافية، وربما أحياناً قد نحصل على تعريفات – قد– تُناقض بعضها بعض الشيء. ولذلك يلجأ الباحث إلى المنطق، وعلمائه من حكماء وفلاسفة، وذلك منذ أن قال أول إغريقي مفردة (رائع).
يذكر أنّ: الفن ظاهرة اجتماعية معقدّة، بل بالغة التعقيد. وهي ظاهرة قديمة، ومغرقة في القدم، وعمرها من عمر الإنسان نفسه، تعود لأول مرة وقف هذا الكائن على قدميه، وانفصل عن القطيع الحيواني، ومن ثمَّ استمر بالتطور منذُ تلك اللحظة، ولا يزال يتطور حتى اللحظة الراهنة.
وعن بداية الفن ونشوئه، يذكر الباحث نظريتين، الأولى يطلق عليها: النظرية الغربية، والنظرية الأخرى يطلق عليها النظرية المادية الاشتراكية، وفي حين راح الباحث ينبش عن فلاسفة النظرية الثانية – الاشتراكية – ويميل إليها في معظم ما جاء بعد ذلك في الكتاب، بقي عند الأولى مقتصراً على التعريف، بل إنّ ما سرده بعد ذلك، كان لتأكيد – إلى حدٍّ ما - صوابية الثانية، ومن ثمّ تفنيد مقولة، أو مقولات الأولى وطروحاتها. ومن ثم كان التركيز على الفوارق بين أقطاب المفكرين في النظرية الثانية التي دعاها بـ (الاشتراكية).
حيث تقول النظرية الأولى، التي وسمها بالغربية: هكذا يبدأ بها بالفعل "تزعم"، أي أنه يبدأ مُشككاً، فيقول: تزعم كما يقول كانط وشيلر، أنّ منشأ الفن؛ أصله اللعب – وهذه هي نظرة الفلسفة المثالية الغربية للفن، وأصوله، لأن الفن بحدِّ ذاته، لا يأتي إلا بالمتعة الجمالية، مثلما أنّ اللعب لا غاية له سوى اللعب. وينسب لشيلر قوله: إنّ الفن ينبع من نزوع الإنسان إلى اللعب، فالفن يُعبّر عن الرغبة في الانعتاق من الواجب والضرورة، ويُقيم في ملكوت الحرية والطمأنينة والصفاء.
فيما النظرية المادية الاشتراكية؛ تُعارض الرأي السابق للنظرية الغربية، فهذا عالم الجمال الروسي (تشرنيشفسكي) من القرن التاسع عشر يقول: إنّ العمل؛ هو أصل الفن. وحتى (بليخانوف) يقول: إذا كان مصدر الفن هو اللعب، فيجب ألا يكون اللعب تسلية مجانية، فاللعب ينطوي على نفعٍ اجتماعي، الذي يعزوه إلى النشاط الضروري، ولذلك فإنّ اللعب هو ابن العمل، بل واللعب مرتبط بالعمل إلا لدى الطبقات المتبطرة العاطلة عن العمل.
حتى إنه في النشوء، أو المظاهر الأولى للفن. وقد اكتشف (بوخنر)، أنّ أصل الشعر والغناء كان في الحركات الإيقاعية والمتناسقة للأجسام البشرية أثناء العمل، حيث توصل إلى نتيجة تقول: "يكمن سرّ القريض في النشاط الاجتماعي". ثم يسرد الباحث طويلاً لتأكيد هذا المنحى على أنّ أصل الفن هو العمل، وليس اللعب، مستشهداً بقول لغوركي الذي يتساءل: من الذي حوّل العمل اليومي الشاق المضني إلى فن؟! ويجيب: في البداية الإنسان بيديه، وبعد ذلك بواسطة الآلة، لذلك فإنّ مؤسسي الفن كانوا هم: الفخارين، والحدادين، وعمال النسيج، والحائكين، والصاغة والنجارين، وعمّال البناء، والخياطين، والنقاشين على الخشب وغيرهم من كلّ الحرفيين، وكل من صنع الأشياء بفنية، وذلك من أجل غبطة عيوننا، وراحة نفوسنا. ومن هنا نفهم استحضار الباحث لكل مقولات أولئك المفكرين والفلاسفة والكتّاب الذين وقفوا منددين بمقولة (الفن للفن) لبودلير ورفاقه الغربيين.
يمتد تاريخ الفن اليوم كسلسة طويلة تصلُ حلقاتها الكثيرة بين الإنسان من طرف، وبين العالم المحيط به من طرفٍ آخر، وهذا ما جعل الفن يخلق رابطة بين الإنسان (الفرد) من جهة، وبين العالم المحيط به (المتعدد) من جهة أخرى. وهذه السلسلة الطويلة من تاريخ الفن تبدأ من الفن قبل التاريخ، وحتى اليوم. الفن الذي بدأ بمحاكاة الطبيعة، وبقي كذلك محاكاة للواقع، أو إعادة تجسيد، وإيضاح معنى الحياة.
وهو ما يُشكل خلاصة هذه الدراسة، حيث تكمن ضرورة الفن لأنه: يُجسد الواقع، بما يعني تفسيره، ومن ثمّ الحكم عليه، وفي التنوير والكشف، أي تسليط الضوء على ما يجري، والتنبؤ والتحذير، ومن ثمّ التحريض والتغيير، وصولاً إلى العزاء، وتحقيق الذات، التي ختامها الحكمة.
----