"حضرة التاريخ" كتاب يستحضر الزمن في حوار يعقده الزميل الصحفي أُبَي حسن -رئيس تحرير موقع فينكس- مع الكاتب السوري عدنان بدر الحلو، كقامة تاريخية، حيث كان الكاتب والرفيق القريب من الشهيد غسان كنفاني ونائبه في رئاسة تحرير مجلة الهدف، وكذلك واضع أهم الكتب عنه، منها كتاب: "مطار الثورة في ظل غسان كنفاني" و"دفاتر المنفى".
وكتاب "حضرة التاريخ" قدّم له الشاعر السوري المغترب هادي دانيال كتجربة نضالية، سورية لها بعدها العربي الفلسطيني. يتميز الكتاب بعراقة الشخصية التي يتمّ التحاور معها، فلا يسعك إلا أن تبدي إعجابك بهذا الأسلوب الممتع الذي غلب على الحوار، إذ لا يمكن النظر إليه كحوار بين صحفي ورجل سياسي عادي يتحدّث عن مرحلة ما، وإنما تجد في هذا الكتاب متعة القصّ والطرائف والحكايا، والسيرة الذاتية والنضال الوطني والقومي، ومفاصل القضية والأدب والشعر والصحافة وتنوع الصحف الحزبية، ناهيك عن روعة الحديث والوصف المكاني والقيمة المعنوية للزمان في لحظاتٍ ما، وكذلك فرادة التعلق بالمكان كحالة من التماهي بين الفكري والنفسي والأيديولوجي مع القضايا المتبناة.
كما تميز الحوار بالسرد المستفيض للأحداث بأزمنتها وأمكنتها الدقيقة. فأسلوب عدنان بدر حلو على حد تعبير الشاعر السوري هادي دانيال -المقيم في تونس- يراوح بين الصحفي التقريري والأدبي الأقرب إلى السهل الممتنع، والذي كان أشبه بأسلوب كوليت خوري في كتبها الأولى في مكانٍ ما، وروايات عبد الرحمن منيف في طرازها الاجتماعي من جهة أخرى.
وعدنان بدر حلو هو مناضل سوري من منطقة مشتى الحلو، الشيوعي والاشتراكي العربي، فلسطيني الهوى والنزعة، وقد كانت فلسطين ولا تزال بحثه الفكري الوجداني الحرّ. ليبدأ الحوار معه في كتاب "حضرة التاريخ" بسؤال عن بلدته مشتى الحلو، فوقفنا معه على التناقض بين اسم المشتى المشتق من الشتاء وبين طبيعتها كمنتجع اصطيافٍ ساحر، واسم عائلته الذي ارتبط بالمكان (الحلو). وتحدّث عن مرويات كثيرة وطريفة تتعلق بالبوسطة وغيرها من مشاهد ذلك الزمان.
كما يُلفت انتباهنا إلى أن عدنان بدر الحلو كتب الشعر في فتوته، لكنّ مشروعه الظاهر كان الكتابة السياسية كأداة نضالٍ عربيّ تقدميّ اشتراكي في خدمة مشروع سياسي أرحب وربما أخطر. وسيكتشف قارئ الحوار ليس فقط معاناة هذا المناضل وصلابته في الدفاع عن مواقفه الواعية، بل سيلفته عمق تعلّق عدنان بدر الحلو بوحدة شعبه وتراب وطنه وحرصه على سردٍ موضوعي لتاريخ النضال السوري المعاصر في أواخر أربعينيات القرن المنصرم في آفاق متداخلة، طبقية، وطنية وقومية بأبعاد اشتراكية ليبرالية.
كما يتجلى في إهاب هذا الكاتب والمحلل السياسي الاستراتيجي كما عرضها هادي دانيال مؤرخٌ ساردٌ من طراز رفيع، فأيّ متعة ينالها القارئ وهو يتنقّل معه على أجنحة أسلوب يتموّج بين السرد التاريخي والتوهج الشعري والوصف الأدبي.
الكتاب، كما تبين لنا، يسلّط الضوء على خفايا وزوايا معتمة معرفية من بعض تاريخ سورية المعاصر، حيث يرصد الحلو المناكفات بين أعضاء وأنصار الحزب الشيوعي ونظرائهم من الحزب القومي السوري، وهي مناكفات تعكس سذاجة أهل القرى من العامة في تعاطيهم الشأن السياسي، وهم يصطفون وراء هذا الحزب أو ذاك. فعندما يهتف نصير الحزب الشيوعي "يحيا ستالين العظيم" يناكفه نصير الحزب القومي السوري "يسقط ستالين العظيم".
كما يرصد الكتاب ببراعة التجربة الثرية لعدنان بدر الحلو في أبعادها النضالية والوطنية والقومية والإنسانية، وإن كان قد اختار أن ينطلق من الرحم البيولوجي والبيئي لهذه التجربة، الأمر الذي يضع من يقرأها في مناخات الحنين؛ حيث هاجر الكثير من أفراد أسرة الحلو إلى البرازيل، وكثيراً ما اصطدم الحزبان الشيوعي والقومي في مشتى الحلو.
في تفاصيل الكتاب – الحوار نتعرف على صداقة كانت تربط الحلو مع الشاعر سليمان العيسى، إضافةً إلى علاقات حزبية مع الكثير من الأسماء الحزبية والفكرية في سورية كأكرم الحوراني، ومن لبنان طلال شرارة، وفؤاد ذبيان، وشخصيات فنية كفيلمون وهبة وغيرهم.
وفي الكتاب حيّز لا بأس به عن الحياة العائلية لعدنان الحلو وسفره إلى لبنان وتونس وأماكن متنوعة ومراحل تنقله الدراسي بين المشتى وحلب ولبنان، ومن ثم وفاة الوالد وأعباء أسرته التي وقعت على كاهله والكثير من الأعمال التي قام بها.
باختصار؛ يُكثف الحوار - الكتاب التاريخ المعاصر بين دفتيه، زمن الهزائم وجيش الإنقاذ، والانقلابات والكثير الكثير من خفايا تلك المرحلة. ليختم الحوار بالحديث الشخصي القريب عن زوجته سهيلة يعقوب رفيقة دربه لسبع وأربعين سنة، التي ويا للطرافة كانت عضواً في الحزب القومي السوري الاجتماعي، والحلو كان شيوعياً، وقد تزوجا في فترة ذروة "العداء" بين الحزبين.
----