لقد انتهج الفيلسوف طيب تيزيني المنهج الجدلي في قراءته النقدية وتفكيكه للنصوص التاريخية والفلسفية. وتناول طيب تيزيني بالبحث والتفكيك الفكر العربي من القرن الخامس إلى الفترة المعاصرة. ويعدّ "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي" بأجزائه، أحد أهم المشاريع الفكرية العربية في القرن العشرين. وقد أكد الفيلسوف حسين مروة على الموقف الريادي العلمي لطيب تيزيني.

اتخذ طيب تيزيني الماركسية منهجاً في البحث والتحليل، موظفاً إياها من أجل قراءة التراث بأبعاده المعرفية والأيديولوجية والسياسية، وتكاد تكون تجربته هي من التجارب الأُوَل التي يخوضها الفكر العربي المتبني للمنهج المادي الجدلي التاريخي. فهذا الميدان لايزال جديداً، إلى حد بعيد، بالنسبة إلى الآخذين بالفكر الماركسي، والأدوات المفهومية جديدة، وبعضها يتكون ويُصاغ ويُمتحن في خضم التجربة نفسها. من هنا، فإن الضرورة المعرفية والفلسفية تقتضي من الباحث أن يكون اقتحامياً حتى يستطيع دخول المغامرة المحفوفة بالمخاطر والمعرضة للأخطاء، والتسرع في بعض الأحكام، لأن ما يثار حول قضية التراث عموماً، والتراث العربي من قبل بعض الباحثين والعاملين في الحقل الثقافي، إنما يثار، كما يرى تيزيني "في معظم الأحيان والأحوال بقليل من الخصب والعمق في البحث العلمي، وبضحالة أو برجعية في الاستبصار والمسؤولية التاريخية والتراثية والاجتماعية الراهنة"[1].

ولا يجوز موضوعياً ومنطقياً إغفال الجهود والمطامح والحماسة والتوقعات المشروعة لأولئك الدارسين للتراث. ولكن من المحتمل أن يؤدي الإفراط في الحماسة إلى تهميش الظاهرة التي يُراد لها أن تكون موضوع البحث.

انتهج تيزيني القراءة النقدية وتفكيك النصوص فكراً ولغةً والغوص خلف السطور، عبر نزع القداسة عن أي نص، وقراءته في سياقه التاريخي، وضمن الظروف التي أدت إلى بلورة ذلك النص، انطلاقاً من رؤيته أن الفكر يرتبط بالواقع الاجتماعي ارتباطاً وجودياً "أنطولوجياً". وتتكشف مشكلة التراث العربي، بوجهه الفكري، من حيث هي مركب من مسائل تتصل بالأبعاد الكونية الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، وهي بذلك "تحرض الباحث على التصدي لها من مواقع موضوعية دقيقة، بعيداً عن عوامل التقديس والتبجيل أو التحقير أو المهادنة..."[2].

ومن الجدير ذكره، أن قراءة كهذه للتراث تبقى مشروعاً طموحاً، نظراً للصعوبات التي تحيط بالبحث العلمي، الاجتماعية، أو السياسية، أو العلمية، التي تنشأ من إشكالية التطور على كافة الصعد، وأهمها أداة البحث العلمي نفسها. وإن فهم الفكر يستوجب البحث في أصوله البعيدة والعامة في الواقع الاجتماعي، من دون إغفال الاستقلالية النسبية تجاه الواقع الاجتماعي.

إن ما أنتجه طيب تيزيني كان تعبيراً عن ظاهرة جديدة لحاجة موضوعية، حيث بدأت مرحلة جديدة في دراسة التراث العربي الإسلامي، بلورها صدور الجزء الأول من (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) للمفكر حسين مروة الذي عبّر عن ذلك قائلاً: "... إنني عندما ابتدأت بعملي هذا، كنت أشعر بوحدة، بوحشة... عندما أطل عليّ تيزيني "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" شعرت أنه يوجد معي من آنس به، وهو سائر في الطريق نفسها، وليس مصادفةً أن تيزيني أنجز كتابه في الحين الذي أعدّ أنا فيه كتابي... إنها ظاهرة لحاجة موضوعية، فليست القضية إذاً فردية أو قضية فئة معينة، الناحية الثانية التي أحب قولها هي: التأكيد على الموقف الريادي العلمي للدكتور طيب، هذا الموقف يستحق أجلّ التقدير"[3].

لقد وضع تيزيني لنفسه مهمة اقتحام الفكر العربي منذ القرن الخامس حتى المرحلة المعاصرة في صيغتيه التاريخية والتراثية، وإن قضية التراث قد تحولت، بسبب عوامل عدة معقدة ومتداخلة، إلى إحدى المسائل الرئيسة الملحة في المنظومات الأيديولوجية والثقافية العامة للقوى الاجتماعية المتعددة في المجتمع العربي، ولعلها قضية أساسية في الصراع الدائم من أجل إثبات الوجود والإسهام في حضارة العصر، إضافة إلى أهميتها في بنية الحياة الفكرية المعاصرة، "إن مختلف القراءات والتأويلات والدراسات المتكاثرة والمتكاثفة حول التراث، على اختلاف منطلقاتها واتجاهاتها ومذاهبها الفكرية والأيديولوجية، إنما يرمي كل منها إلى تحديد مكانه في المعركة المحتدمة... خصوصاً على صعيد الواقع الاجتماعي- السياسي العربي"[4].

وهنالك واقع فكري أشار إليه تيزيني، يبرز بإلحاح، يتميز بكون علم تاريخ الفلسفة لا يعالج بشكل كافٍ من وجهة النظر العلمية المتعمقة، وهذا يؤثر سلباً في تاريخ الفلسفة والتراث إجمالاً بكل ما ينطوي عليه، ذلك لأن المقولات والمفاهيم التي ساهمت بشكل أساسي في بلورة أنظمة العلوم المختلفة، لا يمكن معالجتها بشكل شامل نسبياً وعلمي حازم، إذا نظر إليها فقط من خلال انتظام منطقي، حتى ولو تم ذلك بالعلاقة مع الفروع العلمية الأخرى.

إن المعالجة الدقيقة للمفاهيم في نشوئها وتطورها، أي في تاريخيتها الجدلية، وبالعلاقة مع فروع المعرفة الأخرى، هي المخولة والقادرة فعلياً على إكسابنا فهماً علمياً شاملاً لتلك المفاهيم. وتشكيل وتطوير نظريات وفرضيات ومقولات ومفاهيم علمية، لا يمكن أن يستجيبا لمستلزمات الدقة العلمية انطلاقاً من البناء المنطقي لهذه النظريات والفرضيات فقط، بل إن عملية التشكيل والتطوير ينبغي أن تعمق من خلال بحث تلك الركائز العلمية في تاريخيتها، "إن المنطق ينبغي أن يُرى ويمارَس في تاريخه، والتاريخ في منطقه، وذلك بشكل عضوي وثيق"[5].

فالتاريخ والمنطق يكملان بعضهما بعضاً، في وحدة جدلية، وإن أحدهما لا ينفي أو يستنفد الآخر، وفي مجرى فترة من فترات التاريخ النظري، في خصوبته وغناه، "لا يمكن أن يُستوعَب ويُسبَر غورُه بحزم علمي إلا من خلال منهجية Methodology حازمة علمياً، منهجية لها القدرة على استشفاف وسبر غور ذلك المجرى بلحظتيه، التاريخية والمنطقية"[6]. لعل هذا النص لا يؤكد على الامتياز الصوري الخاص بالمنهجية هذه تلقاء المنهجيات الأخرى، بل إنه يُبتكر من القانونية الذاتية للتطور التاريخي الخاص بالفكر النظري، وتطمح هذه المنهجية إلى حل قضية "التاريخي" و"المنطقي" في خطوطها الأساسية، حيث انطلقت من أنه في المنطق يجب على تاريخ الفكر أن يندمج مع قوانين الفكر نفسه. ومن خلال وضع المسألة بهذا الشكل، أراد تيزيني تلمّس القضايا الرئيسة في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، إذ درس من موقع هذه الرؤية الاصطلاحية المنهجية الأساسَ المصطلحي للنزعات اللاتاريخية واللاتراثية، والبديل المقترح، ألا وهو النظرية الجدلية التاريخية التراثية، انطلاقاً من فهمه للتاريخ العربي الإسلامي، من حيث تبلور العلاقات الاجتماعية الاقتصادية ومن حيث الفكر. "... أما نحن، الذين نأخذ بمنهج المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، فإننا ننطلق في نظرية التراث من موقعين متداخلين ومتكاملين: موقع النظر التاريخي وموقع النظر المعرفي المفهومي"[7]. يتيح الموقف الأول النظر إلى التراث مشروطاً بتاريخيته، أي برؤية تضعه في صورته الموضوعية كما تحققت تاريخياً، ضمن بنيتها التاريخية وزمنها التاريخي، وبهذه الرؤية يمكن تجنب إسقاط فكرة التراث على زمن وبيئة خارج الزمن اللذين صدر عنهما، أي يمكن تجنب إسقاط فكر الحاضر على الماضي كي لا يحدث تعسفاً لتاريخية كل منهما.

صفوة القول، ينتمي كلٌ من النظر التاريخي والنظر المفهومي إلى مرجع منهجي واحد هو المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، وينطوي هذا المرجع على جملة من المفاهيم والمقولات التي يمكن استخدامها في ممارسة القراءة العلمية للتراث.

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن البحث في الحياة الفكرية العربية في سياقها التاريخي والتراثي منذ بداياتها الأولى المبكرة وحتى اللحظة الراهنة، في ضوء نظرية منهجية، كالتي يتبناها تيزيني ويسترشد بها في أبحاثه، تشكّل مشروعاً ينطوي على مجموعة من الصعوبات والمخاطر والمحاذير، لاسيما وأنه، أي تيزيني، نهض بأعباء نقد أولي شامل لما أسماه "الفكر اللاتاريخي اللاتراثي"[8]، منطلقاً في نقده من النظرية المنهجية الجدلية التاريخية التي يتبناها، وهي مدعوة إلى إثبات جدارتها العلمية ليس انطلاقاً من مبادئها وأسسها المكوِّنة لها، بصفتها مسائل نظرية منهجية فحسب، وإنما كذلك عبر بحثها الشامل في ظاهرات متعددة على الصعيد التاريخي والتراثي، ويقوم ذلك النقد على وضع الفكر اللاتاريخي في موقعه من البنية الاجتماعية الاقتصادية التي نشأ وتبلور فيها، بالعلاقة مع مؤثرات أخرى خارجية. ويمكن، من خلال ذلك، تقصي وتحديد واستشراف القضايا النظرية والمنهجية العامة للتراث عموماً، مثل، تحديد مصطلح التراث، علاقة التراث بالتاريخ، البعد التراثي للحدث الاجتماعي، طريقة البحث التراثي... إلخ؛ إضافة إلى بحث بنية التراث من داخله من أجل اكتشاف خصوصيته. والجدير ذكره أن النظرية التراثية، التي يقترحها تيزيني، لم يكن طرح معالمها وأبعادها والوصول إلى نتائجها المنطقية الحازمة ممكناً، إلا عبر استقصاء أوّلي للمسائل والإشكالات الخاصة بالتراث العربي نفسه.

وقد بدأت معالجات التراث تعتمد الأدوات المعرفية المفهومية ذات الطابع المنهجي العلمي في قراءة الخطاب التراثي وفي تأويله، لأن هذا النوع من المعالجة خطا خطوات جريئة نحو الدراسات التي تضع الخطاب التراثي تحت مجهر المفاهيم العلمية المستمدة من الفكر المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي، وهنا سؤال يفرض نفسه: هل يصح الادعاء بأن خطوةً كهذه جديرة أن تُدخل تيزيني وغيره ممن سار في نفس النهج في مصافّ المبتكرين والمبدعين؟ قد يقال إن الفكر المادي الديالكتيكي- التاريخي فكرٌ مؤسس منذ زمن، فعن أي إبداع أو أي تأسيس نتحدث؟! المسألة ليست في إبداع هذا الفكر نفسه وفي تأسيسه، إنما تكمن في الإقدام على الممارسة التطبيقية لهذا الفكر للمرة الأولى في حقل الدراسات التراثية العربية. فالمسألة إذاً كانت تحتاج إلى خطوة أولى في الإبداع والتأسيس، وهي تجربة معقدة وعسيرة، ولعلها غير مسبوقة بأنموذج أو مثال.

يقودنا هذا إلى الإشكالية: ما أهمية قراءة تيزيني للتراث، وللفلسفة العربية الإسلامية من منظور ماركسي؟ وما هي طريقة تعامله مع الأدوات المنهجية التي استعان بها أثناء صياغته لمحاور وقضايا الفلسفة العربية – الإسلامية؟ يتعلق هذا البحث بنمط الاستعارة المفاهيمية المُنتجة، وكيفية توظيف المفاهيم، ونتائج هذا التوظيف معرفياً وإبستمولوجياً.