تفتح الفلسفة دائماً كماً هائلاً من التساؤلات، أكثر مما تجيب عن الأسئلة. ورغم ذلك، فإن روتشينك يطلب من الفلاسفة تقديم إجابات على الأسئلة التي تشغل بال الناس. ولكن كل فيلسوف يختلف عن الآخرين بطريقة تفكيره، فمثلاً يرى ديكارت أن بعض الأفكار مميزة وواضحة جداً إلى درجة أننا باستخدامها وحدها يمكننا الوصول إلى معرفة من نوع ما. في حين يعتقد هيوم أن كل آرائنا، وكل احتمال معرفتنا، هو نتاج خبراتنا وتجاربنا. بينما يرى القديس أوغسطين أن أي شيء نراه بأعيننا أو نلمسه بأصابعنا، هو غير جوهري، وبالتالي لن يكون مُرضياً أبداً، لأن الحياة الموجودة في تدفق الزمن من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ليست أكثر من خيط دخان.

الفلسفة هي تلك المغامرة الفريدة، هي شكل غريب من الحوار بدأ في اليونان القديمة قبل ألفين وخمسمائة عام.

الفلاسفة نهمون وشغوفون بالتساؤل والبحث عن أجوبة لكل ما يواجههم في الحياة، فالحياة التي يعيشونها هي نفسها المشكلة التي ينكبون عليها. إنهم أولئك الأفراد الذين لا يقتنعون بما يجري حولهم، ولا يجدون إجابات الآخرين وأفكارهم ترضي نهمهم للمعرفة. فها هو سقراط في حوار أفلاطون "فيديروس" يشيد بالعلماء في تفسير الظواهر الطبيعية، ولكنه يعلن بأن لا وقت للتفكير بالقضايا العلمية قائلاً: "من الحماقة بالنسبة إليّ النظر في أشياء خارجي، وأنا لم أتمكن من فهم داخلي بعد". إن عبارة "اعرف نفسك" هي المفتاح السقراطي لفهم العالم. وإن معرفة الذات هي جوهر بحث الفيلسوف.

يقول ديفيد روتشنك في كتابه هذا (التفكير فلسفياً)، إن ما يجعل أي عمل فلسفي عظيماً، هو قيام مؤلفه بتقديم جواب شامل فيه إلى حد كبير عن سؤال أوقدته الدهشة. وباعتبار أن المفكرين العظماء يُدهشون من كل شيء وعقولهم استثنائية القدرة والطاقة، فإنهم ينتجون دوماً سيلاً هائلاً من الأفكار يمتد من البداية إلى النهاية. هم يفهمون أنه لا يمكن الإجابة على أي سؤال بمعزل عن كل الأسئلة الكبرى، مثل: كيف يجب أن نحيا أخلاقياً؟ وما هي ماهية الحياة التي نصبو إليها؟

ورغم أن روتشنك يربط الفيلسوف بتقديم إجابات، إلا أن الفلسفة تاريخياً فتحت تساؤلات كبرى أكثر من الإجابات. ينصب اهتمام الفلسفة على وعي الواقع، ومحاولة تغييره، ولكنها في الوقت نفسه، ومن خلال الجدل، لا تصل إلى نتيجة نهائية وقاطعة. ويبقى الفكر الفلسفي في صراع دائم مع نفسه.

وحسب روتشنك، فإن الحقيقة الصارخة التي تجمع الفلاسفة العظام، هي اختلافهم مع بعضهم البعض. فأرسطو يعتقد أن البشر بطبيعتهم سياسيون، وهو ما يقتضي ضمناً أنه كلما أدرك المرء ذاته كفرد أولاً بدلاً منه كمواطن، قلّ وجوده كإنسان حقاً. بينما يرى جان جاك روسو أننا نحن البشر كائنات انعزالية بالطبيعة. أما جون ستيوارت مل، فيعتقد أن ما يحدد كون أي فعل أخلاقياً أم لا، هو عواقبه التالية على حيوات الآخرين.

المعرفة كهدف

حسب ديكارت، فإن بعض الأفكار مميزة وواضحة جداً إلى درجة أننا باستخدامها وحدها يمكننا الوصول إلى معرفة من نوع ما. وهذه المعرفة هي معرفة مستقلة عن الواقع المحسوس، وبالتالي لا يمكن إثباتها تجريبياً ولا نحتاج إلى ذلك أصلاً. في حين يعتقد هيوم أن كل آرائنا، وكل احتمال معرفتنا، هو نتاج خبراتنا وتجاربنا. ولا يمكن لأي قدرة إدراكية صرفة اكتشاف حقيقة العالم بمعزل عن الواقع المحسوس. ويقدم القديس أوغسطين رأياً مخالفاً تماماً، إذ يرى أن أي شيء نراه بأعيننا أو نلمسه بأصابعنا، هو غير جوهري، وبالتالي لن يكون مُرضياً أبداً، لأن الحياة الموجودة في تدفق الزمن من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ليست أكثر من خيط دخان. وهذا ما يرد عليه فريدريك نيتشه بقسوة، حين يقرر أن تشويه أوغسطين للزمن المؤقت العابر أمر دنيء، إذ إن إنكار الواقع والخير الكامن في مرور الزمن، هو شكل من أشكال كراهية الذات. فالزمن عابر، لكن هذا الواقع هو الوحيد الذي لدينا، لذلك يدفعنا نيتشه لنكون شجعاناً ونواجه حيواتنا كما هي، بدلاً من الهروب إلى متخيل لا حياة فيه.

في اللامساواة

يشرع روتشنك في الفصل الثاني الذي جاء بعنوان "وحدي أم مع الآخرين"، بالتساؤل حول عدم المساواة، حيث يطرح فكرة أرسطو مقابل فكرة روسو. يرى أرسطو أن اللامساواة حالة طبيعية "إذ إن من يرى بالعقل هو الحاكم طبيعياً وهو العنصر السيد طبيعياً، أما من يفعل الأشياء بجسده فهو المحكوم والعبد طبيعياً". أما روسو فيمضي ضد أرسطو، ويرى أن عدم المساواة حالة اجتماعية قطعاً، وليست ظاهرة طبيعية بكل تأكيد.

يقتنع أرسطو بأن القدرات العقلية للأسياد أعلى بكثير منها لدى العبيد. فالأسياد سباقون ويمكنهم التخطيط لما سيقومون به سلفاً. أما العبيد فيفتقدون إلى هذه الميزة، وهم أكثر ملاءمة لطاعة الأوامر. وفي المقابل فإن جون ستيوارت مل يؤكد على أن "سلوكياتنا تكون صحيحة إذا كانت تميل إلى تحريض السعادة، وخاطئة إذا كانت تؤدي إلى ما يخالفها". وهذا أساس نظريته الأخلاقية. ولكن ما هي السعادة التي يسعى إليها ستيوارت مل؟ إنها المتعة وغياب الألم، فالتعاسة هي الألم وغياب المتعة. ويتابع: "فليس هناك من سبب مقنع لكون السعادة مرغوبة، باستثناء أن كل شخص يرغب في أن يكون سعيداً".

ماذا نعرف؟

في فصل "ماذا نعرف؟" يسأل ديكارت نفسه: كيف أن أكون متأكداً من أن إدراكي للمطر خارج نافذتي ليس حلماً؟ فالأحلام هي في النهاية حية إلى حد مدهش، حد يتجاوز أحياناً حتى وعينا أثناء اليقظة. ويعلن "كل الأشياء التي دخلت عقلي حتى الآن، ليست بأكثر حقيقية من أوهام أحلامي". وأثناء وصوله إلى هذا الحد المرعب من التفكير، يصل ديكارت إلى نتيجة: "أنا أفكر، إذاً أنا موجود". وهذه النتيجة/ الحقيقة غير قابلة للتشكيك فيها، لأن مجرد وجودها يثبتها. فديكارت يشك في كل شيء، إلا في التفكير، والتفكير هو الذي يثبت وجوده.

يواجه ديفيد هيوم الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، إذاً أنا موجود" بقسوة حين يعلن: "إن أكثر الأفكار حيوية ستبقى دوماً أدنى من أتفه الأحاسيس الملموسة". أي أن الأفكار أقل قوة وحيوية من الانطباعات الحسية. وهذه معضلة جديدة، إذ إن الأفكار التي يقيم عليها ديكارت صرحه الفلسفي، ليست سوى نسخ من انطباعاتنا، كما يقول هيوم.

وهكذا، فإن تاريخ الفلسفة، هو تاريخ صراع الأفكار، وهذا الصراع ليس تدميرياً، كما حال الصراعات الأخرى، بل هو صراع بنّاء، يشيد صروحاً للفكر، جديدة ومتألقة ومدهشة.

----

-الكتاب: التفكير فلسفياً/ مدخل إلى المناظرات الفلسفية الكبرى

-الكاتب: ديفيد روتشنك

-ترجمة: سلام خير بك

-الناشر: دار الحوار، سورية، اللاذقية، 2018.