يتوصل كلود ليفي شتراوس إلى نتيجة مفادها أن الأوروبيين متمركزون على ذواتهم وفردانيون، ويخشون دنس الأشياء الأجنبية، وهو مذهب يعبرون عنه بالقاعدة التي تقول "الجحيم هو الآخرون"، بينما يعلن شتراوس عن فكرة معاكسة ويرى أن الجحيم هو الأوروبيون أنفسهم وليس الآخرون. ويتوجه شتراوس إلى الأسطورة، فالأسطورة بالنسبة إليه ليست مجرد حكاية خرافية، وإنما هي تنطوي على رسالة أيضاً.

لدى كلود ليفي شتراوس ثلاث عشيقات، هنّ: الجيولوجيا، والتحليل النفسي، والماركسية. وقد أوضح أن الجيولوجيا كانت حبه الأول. وفيما يتعلق بالماركسية، فإنها حسب قوله، تسير في الطريق الذي تسير فيه الجيولوجيا والتحليل النفسي، فهي تبين مثلهما أن الفهم يقوم على رد نمط من الواقع إلى نمط آخر، وأن الواقع الحقيقي ليس الأوضح بين أنماط الواقع، كما أن الإشكالية واحدة في جميع هذه الحالات الثلاث، ألا وهي العلاقة بين العقل والإدراك الحسي.

يقول إدموند ليتش في كتابه (كلود ليفي شتراوس) إن شتراوس أبرز ممثل للأنثروبولوجيا الاجتماعية خارج البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية. وهناك نوعان من الباحثين الذين يصفون أنفسهم بالأنثروبولوجيين الاجتماعيين. مثال النوع الأول هو جيمس فريزر مؤلف كتاب "الغصن الذهبي"، ومثال النوع الثاني هو برونيسلاف مالينوفسكي. وينقسم الأنثروبولوجيون في تبعيتهم لأحد النوعين. ويتبع شتراوس تقاليد فريزر دون أن يتبع أسلوبه. واهتمامه الأساسي منصب على كشف حقائق العقل البشري، لا الحقائق الخاصة بتنظيم مجتمع محدد أو صنف من المجتمعات.

ولد كلود ليفي شتراوس في بلجيكا 1908، وعاش مع أهله قرب فرساي، ودرس في جامعة باريس، حيث نال إجازة في القانون. عين أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ساوباولو البرازيلية. وتولى منصباً في الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي في نيويورك، ثم ملحقاً ثقافياً في الولايات المتحدة، ثم مدير الدراسات في المعهد التطبيقي للدراسات العليا في جامعة باريس. اختير أميناً عاماً للمجلس الدولي للعلوم الاجتماعية، ومن ثم تم اختياره لكرسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الكوليج دوفرانس. فاز بالميدالية الذهبية التي يمنحها المركز الوطني للبحث العلمي – وهي أرفع وسام علمي في فرنسا. كما نال وسام الاستحقاق الوطني. وأصبح منذ عام 1973 عضو الأكاديمية الفرنسية.

من أهم كتبه: أسطوريات – في أربعة مجلدات، الأنثروبولوجيا البنيوية، المداران الحزينان، الطوطمية اليوم والفكر البري، طرق الأقنعة، النظرة المتباعدة، الخزافة الغيورة، ينظر.. يقرأ .. يسمع..

التقى ليفي شتراوس الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر لأول مرة عام 1946، ونشر شتراوس مقالات في مجلة سارتر (الأزمنة الحديثة)، ومن ثم توترت العلاقة بين المفكرين عام 1955، وقد كرس ليفي شتراوس الفصل التاسع من كتابه (الفكر البري) للهجوم العنيف على كتاب سارتر (نقد العقل الديالكتيكي)، ولكن هذا لم يمنع شتراوس من الاعتراف بعقل سارتر، إذ يقول إنه "يشعر بنفسه قريباً جداً من سارتر كلما انكب هذا الأخير، بما لديه من مهارة لا تضاهى، على التقاط تجربة اجتماعية راهنة أو سابقة في حركتها الديالكتيكية".

والمفكران سارتر وليفي شتراوس ماركسيان، وإن لبنيوية شتراوس ووجودية سارتر جذور ماركسية مشتركة. إلا أن الخلاف بينهما على التاريخ، فهو يمثل بالنسبة إلى الوجوديين والظاهراتيين، الأسطورة التي تبرر الحاضر، لكن الحاضر، أيضاً، ذروة ما وصل إليه التاريخ. أما الموقف البنيوي فهو أقل تمركزاً على الذات، إذ يقدم لنا التاريخ صوراً للمجتمعات السابقة التي هي تحويلات بنيوية للمجتمعات التي نعرفها، دون أن تكون أفضل أو أسوأ. وإذا ما كانت لنا أفضلية الموقع الذي نحتله في الحاضر، فذلك لا يعني التفوق. يقول شتراوس في (المداران الحزينان): "في بعض الأحيان.. نجد على جانبي صدع خفي نباتين أخضرين من نوعين مختلفين، وقد انتقى كل منهما التربة التي تلائمه. كما نجد ضمن الصخرة الواحدة صدفتين متحجرتين، والتفافات إحداهما أقل تعقيداً من التفافات الأخرى. وندرك بلمح البصر أن ذلك يعني اختلافاً بآلاف عديدة من السنين، وأن الزمان والمكان يختلطان فجأة، وأن ما في تلك اللحظة من تنوع حيوي يقرب عصراً من عصر ويؤبدهما".

تتضح قدرة إدموند ليتش الهائلة على نقد ليفي شتراوس في أنه يجد صعوبة بالغة في إدراك العالم الواقعي الذي نراه في كل مكان من حولنا. ويقول: "ولما كان انهماك ليفي شتراوس في دراساته الأنثروبولوجية متأت عن قناعته بأن الشعوب البدائية هي "نماذج مصغرة" لما هو جوهري لدى النوع البشري ككل، إن البريين، النبلاء، الشبيهين بروسو، الذي يطلع بهم علينا، يقطنون عالماً بعيداً جداً عن المزابل والقاذورات التي هي المكان الذي يأنسه ويفضله الباحث الأنثروبولوجي الميداني عادة".

يتوجه إدموند ليتش إلى قراءة ليفي شتراوس وهو يستكشف العملية الديالكتيكية في تشكيل وإعادة تشكيل أنفسنا بوصفنا بشراً. ويذكر شتراوس في كتابه "أسطوريات" "أننا (الأوروبيون طبعاً) قد تعلمنا منذ الصغر أن نكون متمركزين على ذواتنا وفردانيين نخشى دنس الأشياء الأجنبية، وهو مذهب نعبر عنه بالقاعدة التي تقول "الجحيم هو الآخرون"، في الوقت الذي تشتمل فيه إحدى الأساطير البدائية على فكرة معاكسة فترى أن "الجحيم هو نحن". وفي عصر ينكب فيه الإنسان على تدمير عدد لا يحصى من أشكال الحياة، من الضروري التأكيد، كما في الأساطير، على أن من غير الممكن لإنسانوية لائقة أن تنطلق من ذاتها أو سياقها الخاص، بل يجب أن تضع العالم قبل الحياة، والحياة قبل الإنسان، واحترام الآخرين قبل المصلحة الذاتية".

من الذي حول العالم إلى جحيم؟ إنه الغرب، الذي حسب تعريف شتراوس، هو الجحيم بعينه.

لم يكن شتراوس مهتماً بالوعي الجمعي في أي نظام اجتماعي محدد، وما يسعى إلى كشفه هو اللاوعي الجمعي للعقل البشري، الذي لا بد أن يكون موجوداً لدى الناطقين بأي من اللغات دون أن يقتصر على لغة واحدة محددة. وأطلق شتراوس بعض المقولات التي توحي بأن للعقل وجوده الذاتي المستقل الذي يعمل باستقلال عن أي فرد بشري، ويقول: "نحن لا ندعي بيان الطريقة التي يفكر بها الناس في الأساطير، وإنما نبين كيف تفكر الأساطير في ذاتها من خلال الناس، دون وعي منهم".

ينتقل إدموند ليتش إلى تحليل شتراوس للأسطورة، ويرى بأنه في تحليله يوجد سحر شبيه بسحر فرويد في تفسيره للأحلام. فعندما تقرأ فرويد للمرة الأولى تجده مقنعاً ولا تشك في صحته. ثم لا تلبث الشكوك أن تراودك.

أخذ البعض معنى الأسطورة بمعنى التاريخ الزائف، أي أنها قصة تحكي عن الماضي ونعرف أنها زائفة ولم تقع. أما الاستخدام الديني فيختلف عن الاستخدام السابق، حيث أن الأسطورة صياغة لسر من أسرار الدين أي أنها تعبير عن الحقائق اللامرئية بلغة الظواهر المرئية، ومن وجهة النظر الأنثروبولوجية تعد الأسطورة حكاية مقدسة. وقد تلافى شتراوس المشكلة في العلاقة بين الأسطورة والتاريخ بتركيز اهتمامه على مجتمعات بلا تاريخ، أي على شعوب مثل سكان أستراليا الأصليين والشعوب القبلية في البرازيل ممن يعتقدون أن مجتمعهم ثابت لا يتغير، ويتصورون الحاضر مجرد امتداد للماضي. ويقول ليتش: "يرى ليفي شتراوس أن الأسطورة لا موقع لها في التسلسل الزمني، بل تشترك مع الأحلام والحكايات الخرافية بخصائص معينة، من أهمها غياب التمييز بين الطبيعة والثقافة الذي يحكم التجربة البشرية العادية، ففي الأسطورة الليفي - شتراوسية يتجادل البشر مع الحيوانات أو يتزوجون منهم، ويعيشون في البحر أو في السماء، ويقومون بخوارق وأعمال سحرية تبدو وكأنها أفعال طبيعية تماماً".

يدرك شتراوس أن الأساطير تكون في البداية تراثاً شفوياً مرتبطاً بالشعائر الدينية. وعادة ما تنتقل حكايات هذه الأساطير إلى لغات غريبة عن لغتها الأصلية فضلاً عن إطالتها والإسهاب فيها. وحين يتاح لشتراوس أو لأي محلل آخر، أن يطلع عليها تكون قد دونت وترجمت على نحو مختزل إلى هذه اللغة أو تلك من اللغات الأوروبية الشائعة، مما يفصلها تماماً عن سياقها الديني الأصلي. ورغم ذلك فإن هذه الأساطير تظل محتفظة بما كان لها في الأصل من خصائص بنيوية أساسية، قادرة على إظهار الخصائص الهامة التي يتسم بها المنطق اللاعقلاني البدائي الكوني.

الأسطورة بالنسبة إلى ليفي شتراوس ليست مجرد حكاية خرافية، وإنما هي تنطوي على رسالة أيضاً. ومع أن مرسل الرسالة ليس معروفاً تماماً، إلا أننا نعرف جيداً من يتلقاها. إنهم أولئك المبتدئون الجدد في المجتمع الذين يسمعون أساطيره للمرة الأولى وهم يتلقنون المذهب من حملة التراث الذي تم تسلم، نظرياً على الأقل، من أسلاف قدماء.

يؤمن شتراوس أنه من الممكن تفتيت الأسطورة إلى أجزاء أو حوادث تشير في كل حالة أو مثال إلى العلاقات بين الشخصيات الفردية في الأسطورة أو إلى المقام الذي يحتله أفراد محددون. وهذه العلاقات والمقامات هي النقاط التي ينبغي أن نركز عليها اهتمامنا، أما الشخصيات الفردية فغالباً ما يمكن استبدال إحداها بالأخرى.