لم يأتِ الفكر الفلسفي اليوناني من فراغ، وإنما كان نتيجة استثماره للفكر الفلسفي في الشرق، مع إضافة عبقرية، تمثلت في تحويل مشكلات الإنسان في الطبيعة من حقل الإيمان والحدس الشعري إلى المجال الذهني. وهذا التوجه نحو العقل، إضافة إلى جملة من الشروط المعقدة والمتداخلة، وضع الفلسفة الإغريقية المبكرة في موقع يميزها أشد التمييز عن الفكر في الشرق الأدنى القديم.

لعلنا لا نبالغ إن ذهبنا إلى أن تاريخ الشرق القديم هو أول فضل في تاريخ البشرية، فقد قُيض في ذلك الشرق لنمو الإرهاصات التي حددت إلى أمد بعيد المسيرة اللاحقة لصيرورة التاريخ العالمي.

والفكر الذي نستقصيه ونعمل على محاولة تحديد تخومه، كان في المحصلة النهائية ملتحماً بالمحيط الطبيعي، بقدر ما كان في طور التوازي معه والتميز عنه؛ حيث لم يحقق إنسان تلك المجتمعات إلا أشكالاً من عملية الانفصال عن الطبيعة، فهو وإن كان وليدها الطبيعي النهائي وامتدادها الاجتماعي، فإنه كان مدعواً، بحكم الضرورة، إلى أن يرتفع عنها وعليها، محققاً نوعية جديدة متقدمة بالقياس إليها، فقد ساد في تلك الفترة الزمنية "أسلوب الإنتاج الآسيوي" أو أسلوب الإنتاج المشاعي القروي الذي شكّل الخطوة الأولى على هذا الطريق.

الوحدات الإنتاجية المستقلة

لقد فرضت الأنهار الكبيرة: النيل، الفرات، العاصي... التكاثف السكاني حولها، وبالتالي أدت إلى تشكيل الوحدات الإنتاجية المستقلة، وكانت كل وحدة تعمل على صعيد معين، وما يتم إنتاج إلا ويُستهلك من قبل الجميع، لأن الشرط الجماعي قائم في العمل بصورة مشتركة. وكانت هذه الوحدات المستقلة على ضفاف الأنهار مرتبطة بمركز المدينة، وتلك المدينة سُميت دولة المدينة، حيث يتمركز حولها عدد من الوحدات الاقتصادية، والاستغلال يتم من قبل شخص واحد يحمل صفات الملك، المالك، الإله، أي المتمتع بالسلطات الثلاث: الاقتصادية والسياسية والدينية. وإن تلك المجموعات لم تكن متجانسة، مما سمح للمركز أن يحكم سلطته التامة "الإله" سيدة المدينة، ومالكها الأول.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل كانت هناك إمكانية متاحة لنشوء فكر فلسفي؟

إن الملك المالك الإله، وطبقته التي حوله، يستمد سلطته السياسية من أنه ملك، والاقتصادية من أنه مالك، والدينية من أنه إله، وكل هذه السلطات ستفهم دلالتها ليس فقط من موقع الملكية، وإنما من مفهوم الخصب الزراعي، وهو المفهوم الكوني في الطبيعة، فالمطر عندما يهطل من الأعلى، فإنه يأتي من قوة إلهية من أجل غاية معينة وهي إخصاب الأرض الجدباء. وقد ظهرت سمة الخصب ضمن تصور أسطوري يشير إلى أنه هو القانون الكوني في العالم كله، حيث إن كل الحياة الإنسانية كانت تقوم على فكرة الخصب ونقيضها القحط. وإن تصورَي الخصب والعقم يمثلان الرافعة الأساسية للبناء الأسطوري؛ فالخصب هو خصب الكون مجسداً بقواه المتعددة: الماء، الأرض، التراب، الهواء، بينما العقم هو الطرف المناقض، هو عقم الكون ممثلاً بانحباس الأمطار وجفاف الأنهار، وبهذا فالخصب والعقم حركتان كونيتان متناقضتان ومتضايفتان في آن معاً.

لنا أن نستنتج أن الأساطير قد طرحت نفسها على أنها التعبير عن الكون الكلي، وقد تجلى ذلك التعبير بأشكال ذات مدلولات جغرافية واقتصادية واجتماعية ساذجة. فقد كان المصريون القدماء يرون أن حدود الدنيا تنتهي مع حدود مصر، وأنها تبدأ بها.

الفلسفة والأسطورة

هل من الموضوعية الاستنتاج بأن الفكر الأسطوري قد حمل نسيجاً فلسفياً؟ أو قارب هذا النسيج وكان مدخلاً إليه؟ وهل بإمكاننا أن نلمس في النص الأسطوري فكرة فلسفية؟

لقد كانت الأسطورة فيما مضى عبارة عن حكاية، ولم تكن حلاً لإشكال، بل كانت تروي مجموعة من الأعمال المنظمة التي كان يقوم بها الملك أو الإله، تلك الأعمال التي كانت تحاول الطقوس أن تجسدها واقعياً، فكأنما تعطي الأسطورة حلاً لسؤال لا يوضع. لكن في اليونان؛ حيث ازدهرت في المدينة أشكال جديدة للتنظيم السياسي، لم يتبق من التنظيم السابق إلا بقايا حطامه، التي فقدت كل دلالة ومعنى، وعندما استقل النظام الطبيعي والحوادث الجوية من أمطار ورياح وعواصف... عن الوظيفة الملكية، فإنه لم يعد يُفهم عن طريق ما تسرده الأسطورة كما كان من قبل، بل أصبح يتمظهر في صيغة أسئلة، أصبح الجدل حولها مفتوحاً.

ومن هذه الأسئلة نشأة النظام الكوني، وتفسير الظواهر الجوية، التي أصبحت تشكل في صياغتها ومنطقها الجديد مادة التفكير الفلسفية في بدايته، وبدأ البحث عن أسباب وجود هذا الكون بعلل به وليست خارجة عنه.

لقد واكب ظهور التفكير الفلسفي تحولان ذهنيان: ظهور فكر وضعي يتضاد مع كل شكل من أشكال الخوارق ويرفض التشبيه الضمني الذي تقيمه الأسطورة بين الظواهر الطبيعية والعوامل الخارقة للطبيعة، ثم ظهور فكر مجرد يخلص الواقع من قوة التغيير التي كانت الأسطورة تفرضها فيه.

التفكير العقلاني

إذاً، هناك تزامن بين ميلاد الفلسفة وظهور المواطن، ذلك أن المدينة حققت على مستوى الحياة الاجتماعية ذلك الفصل بين الطبيعة والمجتمع، وهو فصل تفترضه ممارسة التفكير العقلاني على مستوى الأشكال الذهنية. فمع حلول المدينة، انفصل النظام السياسي عن التنظيم الكوني، وظهر كمؤسسة بشرية تخضع لبحث ونقاش دائمين، ولقد تدخلت الفلسفة الناشئة في ذلك الجدال الذي لم يكن نظرياً فحسب، بل كان جدالاً يواجه بعنف بين الأطراف المتخاصمة. فالحكمة مكّنت الفيلسوف من اقتراح إصلاح للخلل الذي أحدثته إرهاصات اقتصاد تجاري، فكان يُنتظر منه أن يحدد التوازن الجديد الذي من شأنه أن يعيد الانسجام المفقود وأن يعيد الوحدة والاستقرار الاجتماعيين عن طريق الوفاق بين العناصر التي كان تعارضها يمزق وحدة المدينة، وبقي للإغريق بشجاعتهم المتميزة أن يكتشفوا نمطاً للفكر التأملي حدث من خلال قطيعة تامة مع الأسطورة. وقد كانوا في مدنهم على ساحل آسيا الصغرى على اتصال بكل مراكز العالم المتحضر آنذاك: مصر، فينقيا، بابل... وعلى الرغم من أن هذا التماس لعب دوره في نمو الحضارة الإغريقية، لكن من المستحيل حساب دَين الإغريق لأقطار الشرق الأدنى القديم، وكل ما استعاره الإغريق حوّلوه إلى شكل جديد.

إن تغيير مسار التفكير من الفكر الشرقي إلى الفكر اليوناني، يعني تحويل مشكلات الإنسان في الطبيعة من حقل الإيمان والحدس الشعري إلى المجال الذهني، إن هذا التوجه الضمني أو الصريح نحو العقل، إضافة إلى جملة من الشروط المعقدة والمتداخلة... كل ذلك وضع الفلسفة الإغريقية المبكرة في وضع يميزها أشد التمييز عن الفكر في الشرق الأدنى القديم.