هل يكفي العلم وحده لإشادة الحياة الإنسانية؟ وهل تكون حياة الإنسان مجرد قوانين صارمة، يناقض بعضها البعض الآخر وربما ينفيه؟

يمكن أن يحول الناس ولاءهم من إحدى الحقائق إلى أي حقيقة أخرى، إذا قرروا أنها الأكثر جدارة. ولكن على أي أساس يفعلون ذلك؟ من النادر أن يكون وقوع تحولات كهذه مدفوعاً بأسباب لها جدارتها. إلا أن هناك استثناء واحداً – كما يقول ريتشارد دوكينز – له أهمية خطيرة. فالحقيقة العلمية هي البند الوحيد في قائمة الحقائق التي تؤدي بانتظام إلى إقناع من يعتنقونها بتفوقها. يدين الناس بالولاء للمنظومات العقيدية الأخرى لسبب واحد فقط: أنهم قد نشؤوا على ذلك، وأنهم لم يعرفوا قط ما هو أفضل[1].

يتفاقم جدل كبير بين المفكرين على القيمة الحقيقية للعلم في مقابل قيمة المعرفة. ويبدو أن هذا الجدل ينحو في اتجاه تقدم المعرفة على العلم، لشمولها الأشياء الروحية إضافة إلى المادية. إنها القيمة الحقيقية للإنسان، والتي تتعدى القوانين الرياضية والمنطقية، لتخاطب النفس والوجدان إضافة إلى العقل.

ليوتار

يقول "كون": "غير أننا إذا افترضنا أن العلم هو منظومة من الوقائع والنظريات والمناهج مجمعة في الكتب الراهنة، يصبح العلماء أولئك الأشخاص الساعين بجد، سعياً ناجحاً أو مخفقاً، للإسهام بعنصر أو آخر في تلك المنظومة الخاصة. ويصير التطور العلمي عملية أجزاء تضاف إفرادياً ومجموعياً، إلى المخزن الذي لا يتوقف نموه، والذي يؤلف التقنية والمعرفة العلميتين. كما يصبح تاريخ العلم الفرع العلمي الذي يسجل تلك الأجزاء المتتالية والعقبات التي منعت تراكمها"[2].

حين وجد الإنسان على الأرض، شرع يتفكر فيما حوله، وبدأ ينشئ أفكاره حول وجوده، وهنا كانت بداية حكايته الكبرى: الوجود. وعندما شرع بصياغة أسطورته على الأرض، كانت معرفته تزداد، وتتركب فوق بعضها، بهدف إرساء موقع قدم على الأرض وفي الكون.

ومع وصول الإنسان إلى مرحلة متقدمة من العلم، عاد إليه شغفه بالحكايات الكبرى والصغرى، ووجد في العلم إقصاء لمعارفه المتنوعة، الجميلة وصاحبة التاريخ. وبدأ صراع علني وليس خفياً بين العلم والمعرفة. أعلنت المعرفة أنها تحتمل التناقض والاختلاف، أما العلم فهو لا يحتمل تقديم برهانين مختلفين لموضوع واحد، إذ لا بد لأحدهما أن ينفي الآخر.

الحكاية

يقارن فرانسوا ليوتار في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" بين المعرفة العلمية والمعرفة الحكائية، ويرى أن الحكاية لا تستعيد الماضي من أجل تحليله، بل لكي تضعه في أفق لازمني خالد وسرمدي. ويطرح ليوتار مثالاً هو الأسطورة التي تقيم رابطة الجماعة، تلك الحكاية التاريخية التي تعد ملكاً لجميع الناس، ولا تحتاج إلى رخصة لترديدها أو امتلاكها، ولا مصدر لمشروعيتها سوى ذاتها. وهنا يجد ليوتار أن الحكايات متسامحة ومحبة وودودة، ولا يلغي بعضها الآخر، فهي تعيش متجاورة ومتناغمة مع وجود الناس وأفق حيواتهم.

يقول ليوتار: "تحكي القصص الشعبية ما يمكن تسميته أنواع التأهيل الإيجابية أو السلبية: وبتعبير آخر، النجاحات أو الإخفاقات التي تلاقيها جهود البطل. وهذه النجاحات أو الإخفاقات، إما إنها تضفي المشروعية على المؤسسات الاجتماعية (وظيفة الأساطير)، أو تمثل نماذج إيجابية أو سلبية (البطل الناجح أو الفاضل) للتكامل في المؤسسات القائمة (الخرافات والحكايات). بهذه الطريقة تتيح الحكايات للمجتمع الذي تحكى فيه، من جهة، أن يحدد معاييره للكفاءة، ومن جهة أخرى، أن يُقيم على أساس تلك المعايير ما يؤدي أو يمكن أن يُؤدى فيه"[3].

يخرج العلم من أفق التعددية والملكية المشاعية، ويفترض وجود أناس متخصصين وصفوة يتمتعون بمستوى معين من المعرفة العلمية، ويمتلكون مشروعية قبول أو رفض الأطروحات العلمية. وعلى خلاف المعرفة، فإن العلم له تاريخ، يجعله جلفاً تجاه أي نظرية علمية جديدة، فيقف متفحصاً ومقارناً ومن ثم البرهنة عليها، لدحض سابقتها. بالإضافة إلى أن العلم يقف خارج المجتمع، ويكون العالم مراقباً خارجياً مهمته الدراسة لا الفعل.

العلم يواجه الحكاية وينتقدها ويرفضها، وهو يؤسس نفسه على هذا الرفض الجارف لمشروعيتها التي تكمن في ذاتها، أي في روابطها الاجتماعية. وهنا يجد ليوتار أن هذا الرفض هو مصدر إمبريالية الغرب.

جلافة العلم تجعله ينسى تاريخه، فهو في بدايته الفاعلة – أي في العصر الحديث – استند إلى الحكايات، ويذكر ليوتار حكايتين من هذه الحكايات؛ أولهما: حكاية الثورة الفرنسية، أي حكاية التحرر وخلق المعايير الاجتماعية من أجل التقدم. وقام العلم أثناء الثورة بتقديم المعرفة للشعب، وكان العلم أداة الشعب في التحرر، وكانت مساندة الشعب للعلم كي يدافع عن حقه في المعرفة والتحرر ومواجهة التسلط. والحكاية الأخرى هي الفلسفة الألمانية أو "الحكاية الألمانية" في طبعتها الهيغلية؛ إذ يرى ليوتار أن المعرفة العلمية وغيرها، تنتظم في نسق يرتبط بمثل أخلاقي أعلى للدولة والأمة ويستنبط من ذاته كل شيء. إذاً فالمعرفة هنا معرفة تأملية، ترتبط بمبدأ يعلو على الشعب والعلماء معاً، هو الحياة أو الروح.

أخلاقية العلم

تخلى العلم عن أخلاقية انتمائه إلى الدولة أو المجتمع، وغدر بحكايتي التنوير والروح اللتين اكتسب عبرهما مشروعيته الاجتماعية، واختلى بنفسه ورفض مجتمعه. تحول العلم إلى الاهتمام بوسائل الفعل وليس غاياته، وذلك بسبب التقدم التكنولوجي الهائل، وهذا ما دفع العلماء إلى إسقاط الحاجة إلى الفلسفات الكبرى التي قدمت خيراً كبيراً للعلم فيما سبق.

مع خيانة العلم لتاريخه، ومع تمترسه خلف مصالح الربح والخسارة، سقط ارتباطه بالتقييم الأخلاقي، لصالح ارتباطه بالتكنولوجيا، لأن التكنولوجيا أصبحت ضرورية لإنتاج العلم نفسه بما توفره من أجهزة ضرورية لإجراء الأبحاث والتجارب. لقد سيطر منطق الثروة ودوران رأس المال على العلم، وأصبح العلم يدعم قوة السلطة ويدمر أخلاقيات الفعل الاجتماعي المعرفي، في مقابل زيادة الأرباح والإمبراطوريات المالية. وهو بهذا أصبح يشيد ويقوي أسس الإمبريالية في الثروة والسلطة.

وحسب ليوتار، فإن قواعد اللعبة الجديدة – مع التقدم العلمي – تحتم على الإمبريالية تصفية كل من يخرج عن قواعدها عبر خيار إرهابي، وهذا ما دفع ليوتار إلى أن يصف الأمر كالتالي: "أن تتكلم، يعني أنك تقاتل".

إنه مأزق العلم الحديث، حيث يخدم مراكز القرار في العالم، ويبتعد عن خدمة أفراد المجتمعات إلا في إطار تراكم الثروة وتكديس الرأسمال بيد أصحاب الشركات الكبرى متعدية الجنسيات. وهنا تصبح الدولة مهددة أيضاً، لأن العلم لا يعتمد في تمويله عليها بل على تلك الشركات العابرة للقارات. وبالتالي فإن الإنتلجنسيا الأوروبية والغربية عموماً تعيد إنتاج نفسها لمقاومة الفناء الوطني والشخصي والمجتمعي، مدركة أنها بلا فاعلية أمام ترسانة المال والتجارة، وأنها لا يمكنها قيادة الرأي كما كانت تظن. وحتى إنها تدرك أن العالِم نفسه، أصبح مثل عامل المصنع، ترساً في آلة في معمل تابع للشركة.

يطالب ليوتار – كي تستقيم الأمور ويستمر التحرر والتقدم – أن تتاح المعلومة لكل من يريدها، وتخرج من مختبرات ومعامل الشركات وصناع القرار. وبناء عليه على الدولة أن توجد هوامش للمبدعين خارج المؤسسات، وتكفل حرية إبداعهم، من دون أن تنظر إلى مصالحها الخاصة الضيقة. إنها الحرية التي نادى بها ليوتار ليصف العالم المتمدن الذي فقد مصداقيته في الدفاع عن الحريات وفي مقدمتها حرية التفكير لدى الإنتلجنسيا وحرية العلم خارج المؤسسات الكبرى: "حافظوا على الحرية، كي تحافظوا على التقدم العلمي".

إنها الحرية التي يطالب بها ليوتار، والتي يرى أنها تنقذ الفكر الغربي، أو أنها تعيده إلى جادة الصواب، مع تحفظاته الكثيرة على الطريقة التي يتعامل بها نظام الدولة الغربي مع المبدعين الخارجين على قوانين المال والمختبر والسلطة.