برز ابن سينا كواحد من أعظم الفلاسفة العرب، إن لم نقل العالميين، واستطاع أن يكون فريدي عصره، لما قام به من تطوير للفلسفة والطب على السواء.

بسبب قلة الدراسات الجادة، بقي الشيخ الرئيس ابن سينا بعيداً كل البعد عن فهمه وتأويل آرائه وأفكاره. لقد تم اقتطاع أجزاء من فلسفته، ولم تتم قراءته كاملاً لكي يتم تقييمه في سياق فلسفته ككل. ويرى آرثور سعدييف أن السبيل الوحيد والصحيح للوقوف على كنه فلسفة الشيخ الرئيس، ولتحديد مكانتها على نحو مرض، إنما يميز عبر النظر إليها ليس بذاتها وحدها، وإنما في سياق التقليد المشائي الأرسطي الشرقي.

سيرة

عاش ابن سينا في عصر حافل بالمشاحنات والمنازعات والغزوات. ولد في إحدى ضياع بخارى عام 980م، ويعود الفضل في التفتح المبكر لقواه العقلية إلى والده، الذي كانت له اهتمامات فلسفية وعلمية. درس ابن سينا الأدب ولم يكن يتجاوز العاشرة، وأظهر النبوغ، وتمكن من الفقه والحساب. ثم انتقل إلى التحصيل المعرفي على يدي عبد أبي عبد الله النائلي، حيث يعترف ابن سينا قائلاً: "جاء إلى بخارى. وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي دارنا، وجاء تعلمي منه. ثم ابتدأت بكتاب إيساغوجي على النائلي. وكان أي مسألة قالها لي، أتصورها خيراً منه. وحذر والدي من شغلي بغير العلم".

وكان ابن سينا يوضح لأستاذه النائلي ما شقّ عليه من المسائل، وبعدها توجه لتحصيل العلوم الطبيعية والإلهية. ثم رغب في علم الطب، وصار يقرأ الكتب المصنفة فيه. ويقول: "فلذلك برزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الأطباء يقرؤون علي علم الطب. وتعهدت المرضى، فانفتح علي من أبواب المعالجات، المقتبسة من التجربة، ما لا يوصف. وأنا يومئذ من أبناء ست عشرة سنة".

بعد وفاة والده، لم يسعه البقاء في بخارى. وفي الفترة بين 1002 و1005 انتقل ابن سينا إلى كركانج، عاصمة إقليم خوارزم، التي ظلت بمنأى عن العواصف السياسية، وصادفت ازدهاراً ملحوظاً. وفي كركانج كانت الحياة العلمية تتحلق حول "بيت الحكمة"، الذي كان يضم عدداً من العلماء المعروفين، بينهم أبو الريحان البيروني الرياضي والمؤرخ، وأبو سهل الفيلسوف، وأبو الخير الخمار الطبيب، وأبو النصر العرّاق الرياضي. وإلى هذه الجماعة انضم ابن سينا، ودخل في خدمة الشاه علي بن مأمون بن محمد.

تصنيف العلوم

افتتح كتاب (الشفاء) للشيخ الرئيس ابن سينا عهداً جديداً في تاريخ العلم عند العرب، فهو جاء تعبيراً عن خصوصية الثقافة العلمية في المشرق العربي القروسطي، بما تميزت به، سواء عن العلم اليوناني القديم، أو الأوروبي القروسطي، من تطلع للربط بين المعرفة العقلية النظرية، وبين الممارسة التي لم تكن تشمل الحياة الأخلاقية والسياسية فحسب، بل والحياة الإنتاجية اليومية بعامة.

وتجسدت خصوصية العلم العربي في التصنيف السينوي للعلوم، الذي على أساسه وضع ابن سينا مؤلفاته الموسوعية. ومتفقاً مع أرسطو، قسم ابن سينا المعرفة الفلسفية إلى ميدانين: علوم نظرية وأخرى عملية. فغاية العلوم النظرية هي إدراك الحقيقة، أما مقصود العلوم العملية فهو تحصيل الخير.

يؤكد الفكرة آرثور سعدييف في كتابة عن ابن سينا، بأن ثمة إجماعاً بين الباحثين على أن ابن سينا قد ساهم بقسط كبير في تطوير أرغانون أرسطو (أورغانون – مجموعة كتب أرسطو في المنطق، وهي: ايساغوجي أو المدخل. كاتيغورياس أو المقولات. باري ارمانياس أو العبارة. أنالوتيكا أو القياس). لقد أدخل تعديلات مهمة في المنطق الأرسطي، تنم عن رغبة في تجاوز الطابع التأملي المفرط لمنطق المعلم الأول. وعمل الشيخ الرئيس على تقريب مبادئ (الأورغانون) من مهمات العلوم الطبيعية القائمة على التجربة والمشاهدة.

ومن بين الأفكار المميزة لابن سينا، رفضه لتفسير أرسطو لحركة الجسم اللاحقة، بردها إلى فعل الوسط المادي المحيط. فلو كان الجسم يثابر على حركته بفعل الهواء، الذي يدفعه إلى الأمام، لكانت سرعة الهواء أكبر من سرعة السهم. وعندئذ سيصل الهواء إلى الجدار قبل وصول السهم. وكذلك رفض الشيخ الرئيس عدداً من النظريات الكلامية الأرسطية حول الحركة، بما فيها نظرية توالي فترات السكون والحركة.

إن مبدأ الضرورة، أحد المبادئ العلمية عند ابن سينا، فهو يقول إن لكل معلول علة، وكل علة – إذا توفرت الظروف والشروط المناسبة – لا بد أن تؤدي إلى معلولها. ولا وجود لمعجزات وخوارق تخل بالترتيب الطبيعي للأشياء.

يذهب الشيخ الرئيس إلى أن أول ما ينبغي أن يبدأ به الإنسان من صنوف الفلسفة، هو (سياسة نفسه). وتربية النفس يجب أن يسبقها نقد ذاتي، حتى يعرف الرجل جميع مساوئ نفسه بشكل عام، فإن أغفل بعض تلك المساوئ، كان كمن يخفي ظاهر الكلم وباطنه مشتمل على الداء. وإن مقارنة النفس بالآخرين تساعد على معرفة الذات. فالناس "أشباه، بل هم سواء كأسنان المشط".

لم يتفوق ابن سينا في الفلسفة فقط، بل إن مؤلفاته العلمية كانت فريدة في عصره. ويحتل كتاب (القانون في الطب) الذي وضعه في خمسة مجلدات، مكان الصدارة بين مؤلفاته العلمية. ظل هذا الكتاب من القرن الحادي عشر إلى القرن السابع عشر مرجعاً رئيساً للمشتغلين في الطب في الأكاديميات الأوروبية.

وقبل قرون من ظهور علم النفس، قام الشيخ الرئيس بدراسة مفصلة للعلاقة بين حالة الجسم المرضية وحالة المريض النفسية. وقبل أن يكتشف علماء القرن التاسع عشر (الميكروبات)، افترض ابن سينا وجود كائنات دقيقة غير مرئية، تتسبب في الأمراض. وأشار إلى العوامل المساعدة في انتقال العدوى. وكان أول من أعطى وصفاً دقيقاً لمرض التهاب السحايا. واستطاع – عبر التشريح – تقديم أول وصف دقيق لبنية الجهاز البصري.

----

الكتاب: ابن سينا

الكاتب: أرثور سعدييف

ترجمة: د. توفيق سلوم

الناشر: دار الفارابي، بيروت، 1987