تأثر ابن عربي بكلٍّ من الفارابي وابن سينا وابن مسرة وابن طفيل وإخوان الصفا، إلا أنه تجاوزهم جميعاً تركيزًا وهندسةً وصياغةً لنظرية وحدة الوجود بشكل لم يسبق له مثيل، فلم يأتِ بعده بديل؛ إذ لم يحقق مَن جاء بعده أيَّ تجاوُز يُذكَر لمذهبه.

مع صعود ابن عربي في أواخر القرن السادس الهجري، كان التصوف الإسلامي وصل إلى مرتبة عالية ونضج نضجاً كبيراً. وكان منهج سلطان العارفين مركباً من عناصر شديدة التباين والتنوع، إذ إن الرجل كان ينهل من ينابيع كثيرة، شأنه في ذلك شأن كل مفكر كبير. لقد استفاد ابن عربي من كل التراث العربي السابق له، ومن الفلسفة اليونانية. وبذلك فقد ضم منهجه جميع المناهج السابقة، ومن خلاله حوّل مذهب وحدة الوجود إلى نظرية قائمة بذاتها، فكان إضافة فريدة إلى تاريخ الفلسفة.

ولد الشيخ الأكبر ابن عربي في أسرة عريقة بنسبها العربي، فهو من نسل حاتم بن عبد الله الطائي[1]. وقد اختلف المترجمون حول كنيته، فمنهم من دعاه أبا بكر، على حين دعاه مترجمون آخرون ممن عاصروه أبا عبد الله، فهو، إذاً، أبو بكر محمد بن عليّ، على ما جاء في ترجمته في فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي، وشذرات الذهب لابن العماد، ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده، وميزان الاعتدال للذهبي، وجامع كرامات الأولياء للنبهاني، ونفح الطيب للمقري، وغيرهم ممن ترجموا له، وهم كثر؛ أو أبو بكر محي الدين محمد بن عليّ بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي، كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية[2].

إذاً، ولد أبو بكر محمد بن علي، المعروف باسم "ابن عربي" وبألقاب "محي الدين"، و"الشيخ الأكبر"، و"ابن أفلاطون"، في مرسيه في 17 رمضان سنة 560 للهجرة، (28 يوليو سنة 1165 للميلاد) في عهد خلافة المستنجد في المشرق، وكان يحكم مرسيه وبلنسيه ابن مردنيش، ويقول ابن عربي: "كان هذا السلطان، صاحب شرق الأندلس، يقال له محمد بن سعد بن مردنيش، الذي ولدتُ أنا في زمانه وفي دولته بمرسيه"[3].

لقب ابن عربي بكثير من الألقاب، بينها: الشيخ الأكبر، رئيس المكاشفين، البحر الزاخر، بحر الحقائق، إمام المحققين، سلطان العارفين، الكبريت الأحمر، العالم الفاضل، الكامل البارع، وليّ الله تعالى، وحيد زمانه وفريد أقرانه، شيخ أهل الوحدة، وغيرها من الألقاب.

ولما بلغ الثامنة من عمره، انتقل مع أهله إلى إشبيليا،. ولا بد أن يكون قد تلقى تربية أدبية ودينية كاملة، لأنه في كتبه يشير مراراً عديدة إلى شيوخه في القراءات والتاريخ والأدب والشعر الحديث.

عمل مبكراً كاتباً في حكومة إشبيليا. وتزوج من مريم بنت محمد بن عبدون بن عبد الرحمن البجائي، وبنو عبدون أسرة كريمة، ومريم كانت امرأة صالحة. يتوقع أسين بلاثيوس أن هذه المرأة الصالحة، قد أثرت في ابن عربي وربما جعلته يغير مجرى حياته. ومن ثم بعد وفاة والده، تحول ابن عربي نهائياً إلى التصوف. وبشكل دقيق عام 580 كما ذكر ابن عربي في فتوحاته، حيث قال: "ونلتُ هذا المقام في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة"، ويعني أنه دخل مقام التصوف واتبع الطريقة الصوفية في هذا العام تحديداً.

وبعد هذا سلك ابن عربي طريق الصوفية دون شيخ، كما يروي عن نفسه، فالتزم بالمجاهدات البدنية، من الجوع والعطش وبقيام الليل وذكر اللسان والتلاوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج عن كل ما يملك، دون أن يشعر بأدنى كراهية لما أقدم عليه: "وهكذا كان خروجنا عما بأيدينا، ولم يكن لنا شيخ نحكمه في ذلك. فإنا تركنا ما بأيدينا، ولم نسند أمره إلى أحد، لأنا لم نرجع على يد شيخ. ولا كنت رأيت شيخاً في الطريق، بل خرجت عنه خروج الميت عن أهله. فلما شاورنا الوالد وطلبنا منه الأمر في ذلك، حكمناه في ذلك. ولم أسأل بعد ذلك ما صنع فيه إلى يومي هذا"[4].

إذاً لقد تحول ابن عربي إلى الزهد بشكل نهائي، بعد وفاة والده وهو في العشرين من عمره. ثم سافر إلى قرطبة والتقى هناك ابن رشد (المتوفى 596هـ) الذي أظهر إعجاباً شديداً به. رحل إلى المغرب ونزل في بجاية، وجال في مدن تونس، وانصرف إلى دراسة كتب ابن مسرة على يد ابن براجان، وبدأ رحلته إلى المشرق سنة (598هـ ) إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، والتقى بإمام مقام إبراهيم الشيخ مكين الدين زاهد بن رستم بن أبي الرجا الأصفهاني، وكان من أرباب الأحوال والمقامات جمع بين الحسنيين الظاهري والباطني. وكانت لدى الأصفهاني ابنة في السابعة عشرة من عمرها اسمها النظام، مشهورة بحسنها، فعشقها ابن عربي، وكرس لها ديوانه المشهور (ترجمان الأشواق).

سنة 601هـ/ 1204م انتقل إلى الموصل في العراق، وفي بغداد التقى السهروردي صاحب كتاب (العوارف) قطب الصوفية في زمانه، وأعجب السهروردي بذكاء ومعرفة ابن عربي الواسعة، فأطلق عليه (بحر الحقائق).

في القاهرة، اتهم ابن عربي بالزندقة، فرحل إلى أرضروم ومن ثم إلى قونية التي رحب علماؤها به وأجلّوه، وفيها كتب كتابيه (مشاهد الأنوار) و(رسالة الأنوار). ومع انتقاله إلى ديار بكر ومن ثم إلى حران، كتب كتاب (الحكمة الإلهية) وسخره للرد على كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة). ومن ثم رحل إلى حلب، التي اتهم فيها بالحب الجسدي لابنة الأصفهاني نظام، فاضطر إلى شرح وتفسير كتابه (ترجمان الأشواق) بتأليف كتاب سماه (ذخائر الأعلاق).

كانت دمشق محطة ابن عربي الأخيرة عام 620هـ، وكتب فيها أشهر كتبه (الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المَلَكية والمُلكية) الذي يعتبره أسين بلاثيوس إنجيل التصوف الإسلامي: "ومن المستحيل أن نعطي فكرة تركيبية عن مضمون هذا الكتاب الذي يعد بمثابة الكتاب المقدس للعلوم المستورة عند المسلمين، ذلك لأنه بينما نجد في الكتب المشائية والكلامية في الإسلام خطة منطقية دقيقة، نرى الكتب الصوفية، وبخاصة كتب ابن عربي، تقترن فيها المسائل المختلفة تحت باب واحد، دون تنظيم تقتضيه طبيعة الموضوعات، بل لأسباب خارجة ليس لها أساس فلسفي ولا لاهوتي"[5].

لقد تأثر ابن عربي بكلٍّ من الفارابي وابن سينا وابن مسرة وابن طفيل وإخوان الصفا، إلا أنه تجاوزهم جميعاً تركيزًا وهندسةً وصياغةً لنظرية وحدة الوجود بشكل لم يسبق له مثيل، فلم يأتِ بعده بديل؛ إذ لم يحقق مَن جاء بعده أيَّ تجاوُز يُذكَر لمذهبه، وإنما ساروا على الدروب التي عبَّدها لهم، بمن في ذلك عبد الكريم الجيلي واسبينوزا، أكبر عقل غربي في مجال وحدة الوجود.

توفي ابن عربي سنة 638هـ الموافق 1240م ودفن في سفح جبل قاسيون، وبنى عليه السلطان العثماني سليم الأول قبة وأنشأ إلى جانبها مدرسة.

----

المراجع

[1] د. سهيلة عبد الباعث الترجمان، نظرية وحدة الوجود بين ابن عربي والجيلي، منشورات مكتبة خزعل، بيروت، 2002، ص8. (انظر: ابن عربي "محي الدين"، رد المتشابه إلى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مراجعة عبد الرحمن حسن محمود، عالم الفكر، مصر، ص23).

[2] المصدر السابق نفسه، ص9.

[3] الفتوحات المكية، ج4، ص 264.

[4] د. محمود قاسم، محي الدين بن عربي، الطبعة الأولى 1972، مكتبة القاهرة الحديثة. ص9.

[5] أسين بلاثيوس، ابن عربي حياته ومذهبة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1965، ص90.