تحكي الأسطورة تاريخاً مقدساً، حصل في بداية الزمن، وشخصيات الأسطورة ليست كائنات بشرية، إنها آلهة وأبطال، وإشاراتهم تشكل أسراراً لا يستطيع الإنسان معرفتها إذا لم تكن قد كشفت له.

الأسطورة هي ما فعلته الآلهة أو الكائنات الإلهية في بدء الزمن، وتعبر بشكل دائم عن قضية خلق، وتروي لنا كيف أن شيئاً أُنجز وبدأ التكوين، ولهذا هي متضامنة مع الأنطولوجيا، ولا تتكلم إلا عن الحقائق وما حصل فعلاً، وما ظهر بشكل تام، فمثلاً الزراعة هي طقسٌ كُشف من قِبل الآلهة أو الأبطال المحضرين، ويشكل عملاً حقيقياً وذا مدلول.

وكل ما روته الأساطير عن نشاط الآلهة أو الأجداد، ينتمي إلى دائرة المقدس، وهو بالنتيجة يساهم في الكينونة. وعلى العكس من ذلك، فإن كل ما يفعله البشر بدون أنموذج أسطوري، ينتمي إلى دائرة الدنيوي (المدنس)، وهو نشاط عابث خداع غير حقيقي. فالأسطورة تكشف عن القداسة المطلقة، لأنها تتحدث عن النشاط الخلاق للآلهة وقداسة عملها. ولدى الكثير من البدائيين لا يمكن للأساطير أن تروى بلا مبالاة، إنما تروى في المواسم الأكثر غنى بالطقوسية (كالخريف والشتاء)، أو في فترات الاحتفالات الدينية، أي فترة زمن مقدس. فكل أسطورة تظهر كيف أن حقيقة الشيء قد جاءت إلى الوجود، سواء كانت الحقيقة الكلية أو أجزاء منها فقط.

وإن التكرار للنماذج الإلهية له نتيجتان، فمن جهة باحتذاء حذو الآلهة يبقى الإنسان في المقدّس أي في (الحقيقة)، ومن جهة ثانية بفضل إعادة التحيين غير المتقطع للإشارات الإلهية الأنموذجية يتقدس العالم، ويساهم هذا السلوك الديني للبشر في الحفاظ على قدسية العالم[1].

من الظلمات إلى النور

كل سنة جديدة هي عودة بالزمن إلى بدايته، أي تكرار لولادة الكون، وفي انتظار مقدم العام الجديد يجري تكرار اللحظات الميطيقية التي تم فيها الانتقال من العماء إلى ولادة الكون. ففي "بابل" كان الاحتفال بالعام الجديد "أكيتو" حاسم جداً من هذه الناحية، فقد يجري هذا الاحتفال في الاعتدال الربيعي، وفي شهر نيسان، كما قد يجري في الاعتدال الخريفي في شهر (تشريت)، والكلمة مشتقة من (شُرّو) أي شروع ويعني البدء، فلا مجال للشك في قدم هذا الاحتفال، حتى لو تغير تاريخ إقامته، لأن العقيدة المتعلقة به وبنيته الطقسية، كانت موجودة في العصر السومري، كما يمكننا التعرف على نظام "أكيتو" في العهد الأكادي، وهذه الإيضاحات التقويمية ليست مجردة من الأهمية.

ولقد كان إحياء ذكرى الخلق إعادة فعلية لولادة الكون، والبرهان على ذلك نجده في الطقوس، كما نجده في الصيغ التي كانوا ينطقون بها أثناء الاحتفال، أما القتال بين "تيامات" و"مردوك"، فكانت تجري محاكاته في المبارزة التي كان يؤديها فريقان من المشخصين، وهذا الاحتفال نجده دائماً في إطار دراما العالم الجديد عند الحثيين، كذلك عند المصريين، وفي "أوغاريت"، وإن هذا الصراع بين فريقي المشخصين لا يحيي ذكرى القتال البدئي بين "تيامات" و"مردوك" وحسب، إنما يكرر ويحقق فعل ولادة الكون، أي الانتقال من العماء إلى النور. وبذلك يكون الحدث الميطيقي حاضراً (هل يمكن المضي في قهر "تيامات" واختصار أيامه؟ هكذا يتساءل متولي القداس، فالقتال والانتصار والخلق، كل ذلك يحصل في هذه اللحظة بالذات).

وكذلك أيضاً كان يحتفل بالعيد المسمى "عيد المصائر" في الإطار نفسه الذي كان يحتفل فيه بـ "أكيتو"، فكان يتم تعيين دلالات كل شهر من أشهر السنة الـ 12، وهذا يعني خلق الأشهر الـ 12 القادمة، وهذا الطقس احتفظت به تقاليد أخرى على تفاوت في درجة الوضوح[2].

وفي عيد "نوروز" يتجدد ما أبلاه الزمان، وفي هذا اليوم تتقرر مصائر الناس عن السنة كلها، وفي ليلة "نوروز" تُشاهد نيران وأضواء لا حصر لها، ويُمارس التطهير بوساطة الماء، وإراقة الخمر والماء، ضماناً لهطول الأمطار في السنة القادمة. وكانت العادة أن يُزرع في "نوروز الكبير" في جرّة 7 أنواع من الحبوب، وتستخلص من نموها نتائج حصاد السنة، وتشبه هذه العادة تقرير "المصائر" التي انتقلت حتى أيامنا هذه إلى احتفالات العام الجديد عند الصائبة والأيزيديين.

أما في عيد "المظلة" فكان يجري تحديد كميات الأمطار المستحقة لكل شهر، حيث كان الهنود في العصر "الفيدي" يعتبرون الأيام الـ 12 في فصل الشتاء بمثابة نسخة عن السنة[3].

درس البروفيسور "ج. ديميزيل" في إحدى مؤلفاته نهاية السنة وبدايتها في قسم كبير من العالم الهندو-أوروبي، (السلاف والفرس والهنود والإغريق والرومان)، وجلّ عناصر الاحتفالات "المريدية" التي احتفظت بها الميثولوجيا والفلكلور في صيغته ولم تتبدل إلا قليلاً. وعلى نحو مماثل درس "أوتوهوفلر" الأساطير والطقوس لدى الجمعيات السرية وجمعيات الرجال "الجرمانية"، فأثبت أهمية الأيام الـ 12 الزائدة، كما أثبت أهمية العام الجديد على نحو أخص. أما "ولدمار ليونغمان" فقد أفرد لطقوس النار في بداية السنة ولسيناريو (الكرنفال) التي تجري خلال الأيام الـ 12، كذلك الأبحاث التي قام بها "أوتوهوت" وأبحاث "ج. هرتل" باقتصارهما على الوقائع الرومانية والفيدية، وألحّا على وجه الخصوص على تجديد العام بوساطة إضرام النار أثناء الانقلاب الشتوي، وهو التجديد الذي يساوي الانقلاب الجديد.

ولا شك أن المشاهد الميطيقية الطقسية للعام الجديد التي نجدها عند الأقوام الهندو- أوروبية، كان قد وضع لها نظامها في خطوطه العريضة منذ ذلك العصر، ولكن هذه المشاهد أو على الأقل التي بقيت لنا لا يمكننا اعتبارها من إبداع هندو- أوروبي حصراً، فقبل قرون عديدة، كانت الجملة الميطيقية الطقسية للعام الجديد معروفة لدى السومريين والأكاديين، ونجدها أيضاً عند المصريين. إذاً هاتان المجموعتان العريقتان (أقوام الشرق الأدنى والهندو- أوروبيين) كانتا تمتلكان هذه الأشكال التي ترجع إلى ما قبل التاريخ[4].

العود الأبدي

بالنسبة إلى الإنسان البدائي يتجدد الزمان بصورة مستمرة عن طريق تقلبات الفصول على مدار السنة، وهذا دليل على أقدمية المعتقدات المتصلة بالقمر وعلى عموميتها، فالقمر هو الميت الأول، لكنه هو أيضاً الميت الأول الذي يبعث حياً.

فإذا كان القمر يفيد في قياس الزمن في اللغات الهندو- أوروبية، وإذا كانت هذه المراحل تبين في الوقت نفسه قبل زمن طويل من السنة الشمسية، وعلى نحو أكثر حسية بكثير عن وحدة الزمان (الشهر)، فهي تبيّن في الوقت نفسه عن العود الأبدي، ولقد لعبت مراحل القمر (الظهور – التعاظم – الغياب الذي يتبعه ظهور ثان بعد ثلاث ليال من الديجور "الظلمة") دوراً كبيراً في صوغ المفاهيم الدائرية.

إن ولادة بشرية ما وتكاثرها وهرمها وانقراضها، كل ذلك نجده متمثلاً في الدورة القمرية. ولا تكمن أهمية هذا لأنه يكشف لنا عن البنية القمرية للصيرورة الكونية وحسب، إنما بما له من آثار تفاؤلية لما كان غياب القمر ليس غياباً نهائياً إلى الأبد ما دامَ يعقبه قمر جديد، وهكذا كان غياب الإنسان ليس نهائياً أيضاً، وغياب بشرية برمتها ليس كلياً أبداً، لأن بشرية جديدة تولد من جديد من زوجين بقيا على قيد الحياة[5].