كان يوريبيديس مولعاً بالدراسة ولا يهتم بمراتب الشرف، وظلّ مبتعداً عن الشؤون العامة، وقيل عن حياته الخاصة إنها كانت مضطربة بسبب عدم سعادته المنزلية، وقد ترك أثينا في سنّ متقدمة، وذهب ليعيش في الماجنيتس، ثم في بلاط بيلا ملك مقدونيا. تميز بثقافته الواسعة، وعاش حياة تأمل.

ولد يوريبيديس في سالاميس سنة 485 ق.م، ولم يكن من الطبقة الارستقراطية مثل إسخيلوس، ولا الطبقة المتوسطة العليا مثل سوفوكليس، وربما يُدين يوريبيديس بثقافته الذهنية العالية إلى قراءته وتأملاته الشخصية، وإلى مقابلاته الكثيرة مع الرجال البارزين، وقد كان يحيا حياة التأمل، ويتجلّى هذا في جميع مؤلفاته.

ويُقال إنه تردد في اختيار مستقبله، فأراد أن يكون لاعباً رياضياً ثم مصوراً، لكن يبدو أنه ظهر في المسرح في وقت مبكر، وصُرح له وهو في 25 من عمره بأن يدخل المباراة التراجيدية بمجموعة ثلاثية، لكنه لم ينل حينئذٍ إلا الجائزة الثالثة، ومنذ سنة 455 ق.م حتى مماته في سنة 406 ق.م لم يفشل في مبارياته، وتتحدد تواريخ فوزه الدرامي بالمسرحيات "الكيسيتس" سنة 438 ق.م، و"ميديا" سنة 431 ق.م، و"تتويج هيبولوتوس" سنة 428 ق. م، و"الطرواديات" سنة 415 ق.م، و"ميلينا" سنة 412 ق.م، و"أوريتيس" سنة 408 ق.م، و"إفجينيا في أوليس" و"الباكخانتيات" في سنة 405 ق.م، وفاز بـ 4 مسرحيات أخر في 34 سنة تالية، وهذا يُثبت أن مؤلفاته أدهشت الجمهور الأثيني ونالت استحسانه ببطء، ولم يصبح ذائع الصيت في كل مكان، وأستاذ الرأي العام، إلا بعد وفاته.

وقد كان يوريبيديس مولعاً بالدراسة ولا يهتم بمراتب الشرف، وظلّ مبتعداً عن الشؤون العامة، وقيل عن حياته الخاصة إنها كانت مضطربة بسبب عدم سعادته المنزلية، وقد ترك أثينا في سنّ متقدمة، وذهب ليعيش في الماجنيتس، ثم في بلاط بيلا ملك مقدونيا[1].

وتميز يوريبيديس بتقلب طبيعته، وبغرائز ومواهب متقلبة أحياناً، ومن أبرز صفاته التأثير الأنثوي والعطف الشديد المقترن بالمحبة الطبيعية، والخيال المرح المملوء بالرشاقة والعذوبة واتساع الأفق، أما الشعر وحده فكان بعيداً عن أن يجذب انتباهه، وقد كان ذا عقلية فضولية دفعته إلى البحث في جميع أنواع القضايا، فكان كل شيء يثير متعته (الطبيعة والمجتمع والإنسانية)، وقلّما كان يقتنع بالإجابات التقليدية، كما كان يميل إلى الآراء والقواعد الصادرة عن عبقرية صحيحة. ومن صفاته أيضاً أنه حاضر البديهة، حاد الذكاء وعميق التفكير وسريع الشكوك، ومدركاً لمواطن الضعف في كل شيء، ومفكراً أكثر منه فيلسوفاً، وباحثاً أكثر منه مؤسس عقائد، وأحياناً كان نشاطه الذهني المستمر يتخذ صورة مجرد هواية، وهذا من العوائق التي تعترض طريق الشاعر[2].

وإن جاز لنا أن نصدّق الروايات، فقد كان يوريبيديس صديقاً للفيلسوف سقراط، والذي قيل إنه قد ساعده في كتابة أعماله المسرحية، وقد وجد عدد من الفنانين الشباب في يوريبيديس صديقاً يشجعهم، ومنهم تيموثيوس، وهو موسيقي شاب اتهم بإفساد الموسيقا اليونانية بسبب أسلوبه المبتكر الجريء، وكان على وشك الانتحار لو لم يذهب إليه يوريبيديس ويطلب منه الصمود أمام عبارات الاستياء التي سرعان ما انقلبت إلى عبارات استحسان وإعجاب.

كما عُرف بحبه للعزلة، فقد كانت شخصيته انطوائية صارمة، ولم يكن له سوى عدد قليل من الأصدقاء، ومقابل ذلك وهب وقته وفراغه للمطالعة والموسيقا والشعر. ولعلّه كان غريب الأطوار بسبب حبه للعزلة، فقد يكره أو يحب دون سبب واضح، وقيل إنه كان يُحب الاختلاء بنفسه في كهف ذي بابين يطلان على مناظر طبيعية خلابة في جزيرة سالاميس، وهناك يمعن في التأمل ويكتب روائعه الأدبية، ومن هنا جاءت مقارنته بسوفوكليس الذي عُرف بنشاطه الاجتماعي وتقلده لعدد من المناصب العامة مدنية وعسكرية على حدّ سواء[3].

ويختلف عدد المسرحيات المنسوبة إلى يوريبيديس، وتشمل التراجيديا والدراما الساتورية تبعاً للروايات ما بين 75 إلى 92، لم يصلنا منها سوى 19 مسرحية، وتشمل دراما ساتورية واحدة هي "الكوكلوبس" وتراجيديا واحدة وهي "ريسوس"، كما ألّف بعض الأشعار الغنائية والمراثي، وتحتفظ المصادر العلمية بمرثاة للأثينيين الذين ماتوا في صقلية، وقصيدة نصر لتكريم "الكيبياديس" عند فوزه في الألعاب الأولمبية، وبقيّة تراجيدياته المفقودة عديدة أغلبها حكم أو مقالات ذات أهمية شعريّة أو أخلاقية.

ولم يُدخل يوريبيديس أي عنصر هام في التنظيم المادي للتراجيديا ولا في طريقة تقديمها على المسرح، لكنه عدل كثيراً في فكرة طبيعة الدراما، وربما فعل هذا عن غير قصد جارياً وراء ميول عقله الطبيعية، كما لم يعتبر التراجيديا تمثيلاً كحادثة أسطورية عظيمة من وجهة النظر الدينية، ولا شك أنه كان يضع على لسان أشخاصه خلال الفعل الدرامي ألفاظ المفكر الحر والتي تعبر عن آرائه الشخصية، وربما تصل به الدرجة إلى أن يضع في أذهان المتفرّجين احتجاجاً سرّياً على بعض العناصر الدينية في الأسطورة.

وكان التنوع أحد أبرز العناصر التي يميل إليها ميلاً شديداً، فكانت دراما يوريبيديس متنوعةً قدر الإمكان بالنظر إلى قلّة عدد الممثلين وإمكانات المسرح الإغريقي المتوسطة، وكان يفضّل تعديل الموقف بالحوادث غير المتوقعة[4].

وهناك بعض الغرائب في تركيب مسرحياته تحت تأثير العادات والميول، ومن أهم هذه الغرائب استخدام الحوارات القصصية التي يلقيها ممثل يخرج وحده قبل أن تبدأ المسرحية، وهذه أعظم صور الطبيعة للغرائب التي يمكن أن تخطر على البال ولا يوجد مثلها عند سوفوكليس إلا في مسرحية "التراقيات"، ولا عند إسخيلوس، ولكنها تكاد تكون عامة عند يوريبيديس، وهي طريقة لإعطاء فكرة تمهيدية عن المناظر الافتتاحية. وما إن يعطي الشاعر التفسيرات الضرورية حتى يبدأ بالعناصر الدرامية المؤثرة، وهذه التفسيرات التمهيدية أكثر لزوماً عند تناول الأساطير في حرية مطلقة، وتزيد في تعقيد المواقف، كما أنها وسيلة لربط الحلقات المفككة، وأحياناً تكون أداةً سهلة لإخبار الجمهور بعمل إلهي لا يتوقعه المرء في الدراما رغم ضرورته للموضوع.

ومن الغرائب التي تضمنتها مسرحياته استخدامه "Deus ex machine" ليختم المسرحية، ولا يتردد في استخدامها رغم أنها تبدو مبتذلة، لكنه يجد فيها ميزة إبداء نتائج فعل درامي تظل مستترة في المستقبل، كما أنها تسند إلى الآلهة الدور الذي يطلبه الرأي العام، والأهم من هذا أنه استطاع من خلالها أن يختم المسرحية في نفس أزمة العواطف، ومن خلالها يتجلى ولعه بالمنظر العاطفي الذي يعجبه أكثر من تطور المشاعر الطبيعي[5].

وتتكون طريقته من خليط ممتع بالغ التأثير من الواقعية والمثالية، ورغم التقاليد ودون خوف من إفساد الوقار التراجيدي، نراه قد تجرأ على توجيه الأذهان إلى تفاصيل الحياة الواقعية التي يلتقي بها الفن الأكثر ملاحظة للعظمة، وأحياناً يتصادف أن يقع في الأحداث الشائعة المبتذلة.

وأحياناً كان يوريبيديس يميل إلى النقد اللاذع للحياة، وعندئذٍ قد تكون عرضة للرقابة كعنصر تراجيدي لكنها ذات متعة خاصة، فيها جمع أخطاء السيدات بنوع خاص لم يسبق لأحد في المسرح أن انتقدهن بهذه الكثرة وتلك الشدّة، مع أنه لم يكن محقاً دائماً في فعله ذاك، لكنه على الرغم من انتقاده لهن في حدة وعنف فقد صوّر فضائلهن كذلك.

إضافةً إلى ذلك كشف الستار بصراحة عن الرذائل التي أخفاها سوفوكليس أو لفّها في غطاء العواطف، لكي يعترف بها أصحابها، وما من شك أنه في هذا تصوير حي للمجتمع المعاصر.

ولما كان يوريبيديس مجدداً في جميع عناصر الدراما تقريباً، فإنه لا يقل تجديداً في اللغة التي يتكلمها أشخاصه وهو يميل إلى تطوير لغة التراجيديا بحيث تقترب كثيراً من لغة الحياة العادية، وقد أثنى عليه أرسطو لأنه أوهم الجمهور بأنه يتكلم لغة مجتمعهم العادي، بينما هو في الواقع يعبر بأسلوب سامٍ، وأساس هذا الإيهام هو طريقة ترتيب العناصر المستعارة من الكلام المألوف، كما أن مؤلفاته أقل احتواءً لمصطلحات شعرية مختلطة بألفاظ عامية من مؤلفات سوفوكليس، بيد أن الفرق بينهما لا يرجع إلى اختيار الألفاظ بقدر ما يرجع إلى طريقة استخدامها.

وأهم ما يجعل أسلوبه ممتعاً، هو طبيعته وسهولته رغم أنه دعابي متهكم لاذع، فإنه لا يبدو متكلّفاً، وقد كان أسلوبه ملائماً لاحتياجات حضور البديهة التي يولع بها الأثينيون، ولم يكن بوسع أحد أن ينظم ويطيل تبادل الآراء الوقتية اللاذعة والرفيعة بين متحدثين برد كل منهما على الآخر شعراً بشعر مثلما يفعل يوريبيديس[6].

وعندما توفي يوريبيديس أعلن ملك مقدونيا الحداد، وأمر بإقامة مراسم التشييع تكريماً له، وحين أرسل الأثينيون إلى مقدونيا وفداً يطالب برفاته رفض الملك، فما كان أمامهم إلا أن اكتفوا بتشييد قبر خاوٍ لشاعرهم العظيم.

----

المراجع

[1] الموسوعة الكلاسيكية للمسرح اليوناني والروماني، أمين سلامة، الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية، ص 7- 8.

[2] المرجع السابق، ص 9.

[3] قراءات وتأملات في المسرح الإغريقي، جميل نصيف التكريتي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية، ص 182- 185.

[4] الموسوعة الكلاسيكية للمسرح اليوناني والروماني، مرجع سابق، ص 10- 17- 18.

[5] المرجع السابق، ص 20.

[6] المرجع السابق، ص 22- 24- 27- 28.

[7] قراءات وتأملات في المسرح الإغريقي، ص 182.