اليونان هم أول شعب أبدى حب الاستطلاع، فالفلسفة والعلم اختراعان يونانيان، ولقد كان أقدم وأعظم أثر أدبي للعالم اليوناني هو أعمال هوميروس، صاحب الملحمتين العظيمتين الإلياذة والأوديسة، وعلى ما يبدو أنه تم تأليفهما حوالي القرن 800 ق.م.

ولقد كان للعقيدة الأورفية تأثيراً كبيراً في الفلسفة اليونانية، ويظهر هذا التأثير أولاً عند فيثاغورس، وقد وفق بينها وبين نزعته الصوفية الخاصة، كذلك وجدت عناصر منها طريقها إلى أفلاطون، غير أن العناصر الأكثر بدائية ظلت باقيةً حتى في التراث الأورفي، وهي مصدر التراجيديا اليونانية، وهذا الطابع المزدوج للشخصية اليونانية هو الذي أتاح لها في النهاية أن تغير العالم بصورة حاسمة، وقد أطلق نيتشه عليهما اسم العنصر الأبولوني والديونيسي.

وحضارة الغرب انبثقت من مصادر يونانية مبنية على تراث علمي وفلسفي بدأ في ملطية، وفي هذا اختلفت عن سائر حضارات العالم الكبرى. وقد كشفت فلسفة اليونانيين طوال مراحلها عن تأثير عدد من الثنائيات، ظلت تشكل حتى اليوم موضوعات يكتب عنها الفلاسفة أو يتناقشون حولها، وأساسها جميعاً هو التمييز بين الصواب والخطأ والحقيقة والبطلان، ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً في الفكر اليوناني ثنائية الخير والشر والانسجام والتنافر، ثم يأتي بعد ذلك ثنائية المظهر والحقيقة التي ما تزال حية إلى حد ما حتى يومنا هذا. ونجد كذلك مسألتي العقل والمادة والحرية والضرورة، وهناك مسائل كونية تتعلق بكون الأشياء واحدة أم كثيرة، بسيطة أم معقدة، وأخيراً ثنائية الفوضى والنظام والحد واللامحدود. وطريقة معالجة الفلاسفة الأوائل لهذه المشكلات هي طريقة ذات دلالة بالغة، فقد تنحاز إحدى المدارس إلى طرفي الثنائية، ثم تظهر مدرسة أخرى تتخذ وجهة النظر المضادة، وتأتي مدرسة ثالثة بنوع من الحل الوسط الذي يتجاوز الرأيين الأصليين.

قبل سقراط

لقد ارتبط اسم طاليس بقصص كثيرة، ربما كان بعضها صحيحاً، لكن أهمها كان قوله إن العالم يتألف من الماء، وهي عبارة ليست مسرفة إلى الحد الذي تبدو عليه لأول وهلة، ولا هي مجرد نتاج للخيال المنفصل عن المشاهدة، فإن وجود المرء قريباً من البحر ييسر عليه ملاحظة عملية تبخر الماء بوساطة الشمس، وتجمع البخار على السطح لتكون سحباً، تتحلل مرة أخرى على صورة أمطار، ووفقاً لهذا الرأي تكون الأرض نوعاً من الماء المركز، إذاً إنه من الإنجازات التي تدعو للإعجاب أن يكتشف مفكّر أن هناك مادة تظل على ما هي عليه رغم اختلاف الحالات التي تتجمع بها.

ثم جاء الفيلسوف الملطي أنكسيمندر لينتقد نظرية طاليس الكونية، كذلك كانت الأرض في نظره أسطوانة تطفو بلا قيود، ونحن نوجد على أحد طرفيها، وافترض أن عالمنا محاط بعدد لا نهاية له من العوالم الأخرى، كما أنه القائل إن أصل الإنسان يرجع إلى أسماك البحر، وبناءً على ذلك نصح بالامتناع عن أكلها. أما ثالث المفكرين المشاهير في ملطية فهو أناكسمينس، والذي على الرغم من أن تفكيره كان أقل ميلاً إلى المغامرة، إلا أن آراءه كانت الأقدر على الاستمرار.

إذاً كان فلاسفة ملطية رجالاً ذوي مزاج، ومدرستها الفلسفية كانت جديرةً بالشهرة التي أحرزتها، فهي لم تكن مقيدة بأي حركة دينية، بل إن من السمات الملفتة للنظر في الفلاسفة السابقين لسقراط، أنهم جميعاً كانوا على خلاف مع التراث الديني السائد، وهذا يصدق حتى على مدارس أخرى كالفيثاغورية والتي لم تكن في ذاتها معارضة للدين.

والمدرسة الفيثاغورية أدت إلى ظهور تراث علمي ورياضي على وجه التخصيص، إذ كان علماء الرياضيات هم الورثة الحقيقيون للفيثاغورية، ومن المحتمل أن كشوف الفيثاغوريين في ميدان الموسيقا هي التي أدت إلى الفكرة القائلة إن الأشياء كلها أعداد، كذلك ارتكز فيثاغورس في نظريته عن العالم على تعاليم الفلاسفة الملطيين، وجمع بينها وبين نظرياته الخاصة في الأعداد، وتوسع في فكرة أنكسيمندر بأن الأرض كرة، متخلياً عن نظرية الدوامة التي قال بها الملطيون. ومن آراء الفيثاغوريين أن المعقول وحده الحقيقي والكامل والأزلي، في حين أن المحسوس ظاهري ناقص زائل، وقد ظلت هذه النتائج مسيطرة على الفكر الفلسفي فضلاً عن الفكر اللاهوتي منذ ذلك الحين.

أما هيراقليطس فهو الشخصية التالية لفيثاغورس في التراث الفلسفي، وعلى الرغم أنه لم تكن لديه الميول العملية التي اتسم بها الأيونيون السابقون له، فإن جذور تفكيره النظري كانت ترجع إلى تعاليم الأيونيين وفيثاغورس معاً. وفكرة هيرقليطس عن نفسه كانت رفيعة جداً، وهو أمر يعذر عليه، فباستثناء هذا الغرور الشخصي هو مفكر ضخم، جمع بين أهم تصورات السابقين له، كما كان له تأثيراً حيوياً على أفلاطون.

لقد كانت كل المدارس السابقة تدعو إلى مبدأ أساسي فيما يتعلق بالتركيب الذي تتألف منه الأشياء جميعاً، لكن أحداً لم يتصدَّ لاختبار وجهة النظر العامة هذه حتى جاء بارمنيدس ليأخذ هذه المهمة على عاتقه، وهو فيلسوف من مدينة إيليا، أسس المدرسة الأيلية (نسبة إلى المدينة)، وقد كان هو وهيراقليطس القطبين المتنافرين من بين مفكري العصور السابقة لسقراط.

إن النقد الذي وجهه بارمنيدس كان يستدعي اتخاذ موقف جدي من مسألة تركيب الأشياء، وهذا ما قام به أنباذوقليس وهو فيلسوف يروى أنه كان زعيماً ديمقراطياً، كما كان مفتوناً بالتعاليم الفيثاغورية التي ما لبث أن انشق عنها. وتقول الأسطورة إنه لطالما استطاع التأثير في الطقس، ونجح في مكافحة وباء الملاريا، وقد عدّ نفسه إلهاً. وأراد أنباذوقليس أن يوفق بين المذهب الأيلي وبين شهادة الحواس المعتادة، فقال بكل المواد التي جرب الفلاسفة من قبله أن يجعلوها أساسية، وأضاف مادة رابعة، وأطلق على هذه المواد اسم جذور الأشياء. وهي ما أسماها أرسطو فيما بعد بالعناصر (الماء والهواء والتراب والنار). كذلك اهتم أنباذوقليس بالطب وعلم وظائف الأعضاء، أما آراؤه الدينية فكانت تسير وفقاً للتراث الأورفي، وكانت منقطعة الصلة بفلسفته.

وفي الوقت الذي كانت فيه المدارس الفلسفية تنمو خلال القرن الخامس ق.م، ظهرت جماعة على هامش الفلسفة، أطلق عليهم اسم السفسطائيين، قاموا بمهمة تقديم تعليم منظم، وعلى الرغم من أنهم قاموا في هذا الميدان بمهمة لها قيمتها، لكن نظرتهم الفلسفية كانت معادية للبحث العقلي.

فلاسفة أثينا

كانت الشخصيات الثلاث الكبرى في الفلسفة اليونانية مرتبطة بمدينة أثينا، فقد كان سقراط وأفلاطون أثينيي المولد، أما أرسطو فدرس في أثينا وعلّم فيها. ولقد سبق سقراط المدرستين الرواقية والكلبية اللتين عرفتهما الفلسفة اليونانية فيما بعد، وفي المحاورات الأفلاطونية الأولى ظهرت شخصيته بوضوح يبحث عن تعريفات للمفاهيم الأخلاقية، وقد حاول إلقاء الضوء على هذه المفاهيم عن طريق المناقشة، وأطلق على هذه الطريقة في الاهتداء إلى الأشياء عن طريق السؤال والجواب اسم "الجدل أو الديالكتيك" وهو أول من استخدمه.

والنظرية التعليمية عنده ارتبطت بفكرة ترجع إلى الفيثاغوريين الأوائل، ففي محاورة مينون تسمى عملية التعليم "تذكراً للأشياء التي سبق تعلمها في حياة سابقة"، وعملية التذكير هذه تحتاج إلى جهد مشترك، أما مفهوم التذكر ذاته فيرتكز على الرأي القائل إن النفس تمر بسلسلة من حالات التجسد واللاتجسد المتبادلة، وهو رأي يرتبط ارتباطاً بالغاً بنظرية تناسخ الأرواح التي كان يعتنقها الفيثاغوريون، ونظرية التذكر هذه استخدمها سقراط في محاولة منه لإثبات خلود النفس.

وكان سقراط صديقاً قديماً لأسرة أفلاطون، وقد عرفه منذ طفولته، وبعد إعدام سقراط التجأ مع بعض أتباعه إلى ميغارا حتى تلاشت ذيول الحادث، وخلال بضع سنوات قام أفلاطون بعدة أسفار وعاد إلى الظهور في أثينا عام 387 ق.م، حين وضع أسس مدرسة أُنشأت في شمال غرب المدينة، حيث استوحى تنظيمها من أنموذج المدارس الفيثاغورية جنوب إيطاليا، وتُعد هذه الأكاديمية الأصل الأول الذي تفرعت عنه الجامعات منذ العصور الوسطى. كما أن التعليم فيها أدى إلى تدهور سريع للحركة السفسطائية.

والحقيقة أن أفلاطون جمع بين صفتي المفكر العظيم والكاتب العظيم، فأعماله تشهد بأنه واحد من أبرز الشخصيات في الأدب العالمي، غير أن هذا الامتياز ظل للأسف شيئاً استثنائياً في تاريخ الفلسفة.

ويقول عالم المنطق الفرنسي أ. جوبلو إن ما نجده لدى أفلاطون ليس واحداً من مذاهب الميتافيزيقا، بل هو الميتافيزيقا الواحدة والوحيدة، ولو تذكرنا التميز بين سقراط وأفلاطون لكان من الأدق أن نقول إن سقراط الأفلاطوني هو الذي أثرت تعاليمه في الفلسفة أعظم التأثير، أما إحياء أفلاطون نفسه خالصاً من كل عنصر آخر، فهو ظاهرة أحدث بكثير، وهو يرجع في الأوساط العلمية إلى أوائل القرن السابع عشر، في حين يرجع في الفلسفة ذاتها إلى عصرنا الحاضر.

وقلة قليلة من الفلاسفة الذين بلغوا ما بلغه أفلاطون من اتساع مدى الفكر وعمقه، وإن كان أحد من الفلاسفة قد ناظره على الإطلاق لكن لا أحد منهم تجاوزه، ولا شك أن أي شخص يود الاشتغال بالبحث الفلسفي يكون قد ارتكب خطأً جسيماً لو تجاهله.

أما أرسطو فهو ثالث ثلاثة من المفكرين العظام الذين عاشوا في أثينا، وكان أول الفلاسفة المحترفين وعلى يده نجد أن الفترة الكلاسيكية في الفلسفة فد اجتازت الذروة.

وأسس أرسطو في الفترة بن عامي 340 و335 ق.م مدرسة اللوقيوم والتي سُميت باسم معبد قريب منها، وفيها كان يحاضر تلاميذه ماشياً بين القاعات والحدائق، ومن هذه العادة اكتسب التدريس في اللوقيوم اسمه المعروف "الفلسفة المشائية"، كما أن معظم ما نعرفه عن مؤلفاته ينتمي للفترة الأثينية الثانية، ومن المرجح أن بعض هذه المؤلفات مبني على مذكرات دُونت أثناء قيامه في التدريس، وهكذا يبدو أرسطو أول مؤلف لكتب مدرسية، لذلك جاء أسلوبه يفتقر إلى الشاعرية. كما كان عالماً مرموقاً للأحياء، لكن آراءه في الفيزياء والفلك كانت مضطربة، وربما كان أشهر إسهام قدمه إلى الفكر المنهجي هو مؤلفاته في المنطق، والتي كان أغلبها مستمداً من أفلاطون، لكنها مركزة ومعروضة بصورة ظلت تعلم بها دون تغيير حتى وقتنا الحاضر.

التدهور الفلسفي

كان العصر الهلنستي على الرغم مما فيه من توسع علمي وثقافي، أشدّ إيغالاً في الخرافة من العصور الكلاسيكية، أما من الوجهة الثقافية فقد انتشر التخصص على نحو متزايد، وقد انتقل مركز البحث العلمي من أثينا إلى الإسكندرية، حتى أصبحت ملتقى الكتّاب والعلماء من كافة أرجاء العالم. أما من الناحية الاجتماعية فقد تزعزع نمط الحياة المستقرة بنمو عدد العبيد، وعدم قدرة الأحرار على منافستهم في بعض ميادين العمل.

ويمكن القول إن موت سقراط كان الحد الفاصل في الثقافة اليونانية، وصحيح أن أعمال أفلاطون هي التي ظهرت فيما بعد ذلك، غير أنه بدأ الشعور فعلاً بالهبوط نحو وديان الثقافة الهلنستية، وقد بدأت تظهر في الفلسفة عدة من الحركات الجديدة، أولها ارتبط بأنتيشنيس الذي فقد ثقته بالفلسفة وتمرد على عادات عصره، وتلميذه ديوجين الذي استمدت منه الحركة الجديدة طابعها، وقد عاش حياة تماثل حياة الكلب في بدايته ومنه اكتسب لقب "الكلبي"، وكان من أبرز التعاليم الكلبية الانصراف عن المتع الدنيوية، والتركيز على الفضيلة، وقد تحول هذا المذهب لاحقاً إلى تراث واسع الانتشار في جميع أرجاء العالم الهلنستي.

كذلك كان هناك نتاج آخر لفترة التدهور الفلسفي وهو ظهور حركة الشكاك، وكان أول فلاسفتهم بيرون وتلميذه تيمون. كما أن الفلسفة في ذلك العصر كانت في نظر المفكرين القدامى مغامرة تحتاج إلى يقظة الرائد وشجاعته، وقد أصبحت في الفلسفات اللاحقة شجاعة الاستسلام والتحمل والصبر، ويظهر ذلك في أوضح ما يكون في المدرسة الفلسفية الأبيقورية ومؤسسها أبيقور، لكنها على خلاف المدارس الأخرى لم تصنع تراثاً علمياً، وظلت اتجاهاتها الفكرية التحررية ومعارضتها للممارسات الخرافية تلقى احتراماً بين صفوة مختارة من الطبقات العليا في أوائل عهد الإمبراطورية الرومانية، على الرغم من أن المدرسة الرواقية ومؤسسها زينون أخذت تحل محلها بالتدريج، حيث كانت الرواقية من أقوى الحركات الفلسفية تأثيراً من بين المذاهب التي ازدهرت في العصر الهلنستي واستمرت خمسة قرون.

لقد كانت الفلسفة في العصر اليوناني الروماني مستقلة عن الدين، لكن منذ أن أصبحت المسيحية عقيدة الدولة في عهد قسطنطين، استحوذت الكنيسة على جميع المسائل المتعلقة بالله والعقيدة.

ومع انهيار السلطة المركزية لروما، بدأت أقاليم الإمبراطورية الغربية تتردى إلى عصر بربري عانت فيه أوروبا من تدهور ثقافي عُرف باسم "عصر الظلام"، واستمر من عام 600 حتى 1000 ميلادية تقريباً.

----

الكتاب: حكمة الغرب، عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

الكاتب: برتراند رسل

ترجمة: د. فؤاد زكريا

الناشر: سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1983