يتناول كتاب "قصة الأدب في العالم" بداية نشوء الأدب الأولى. ومن ثم يسرد تاريخ الأدب في العالم أجمع بدءاً من بابل ومصر القديمة واليونان، وصولاً إلى العصر الحديث.

كان الشعر أول الصور الأدبية ظهوراً، وكان الكهان أول الأدباء المنشئين، فصاغوا أناشيد الحرب وقصص الأبطال وعقائد الدين في قالب الشعر، ثم أخذ الأدب بعدئذٍ يتطور مع تطور المجتمع.

في العصر الأوتوقراطي عرفت الأمم المتمدنة التمثيل وأدارته حول موضوعات دينية وأساطير خرافية فاضت بها الروح الأدبية أكثر مما كانت عليه في العصور القبلية، وهذا ما كان في بابل ومصر القديمة واليونان القديمة، وفي هذا العصر أخذ الشعر الغنائي يتطور، أما الشعر القصصي فقد بلغ ذروة تطوره، في حين تناول النثر الفني النصوص الدينية وحكايات السحر والخطابة والرسائل وقصص الجن، ثم ارتقى في الشكل والقالب والفكرة والموضوع والخيال كما في قصص بابل والمصريين وأساطير الهند واليونان.

ثم جاء الأدب الديمقراطي، حيث عملت الديمقراطية على ترقية الأدب التمثيلي الذي يصور حياة الفرد، وتحليل الحياة العامة والجمهور، وقد تفوق الأدب التمثيلي الديمقراطي على المسرحية الأوتوقراطية من حيث الاهتمام بالطبع البشري والإنسانية، كما ارتقى الأدب التمثيلي في أثينا التي أقامت المسارح لتسلية الجمهور وتثقيفه، وحذت حذوها الأمم الأوروبية عندما اعتنقت الديمقراطية.

وكلما تقدم الإنسان بحضارته، اضطرته الحاجة إلى الكتابة وقد كانت بداياتها ساذجة، وفي كلديا وجد أقدم أثر مكتوب، ويشارك الأدب الكلداني أدب المصريين في القدم. أما الأدب الصيني فكان يدور حول مبادئ الأخلاق، واحتل الكاتب الصيني مكانة ممتازة في نفوس الناس ونظر الدولة، كما كان للتراث الأدبي القديم أثره في نفوس الصينيين، ما جعلهم يحيطونه بشيء من التقديس. وفي الهند كانت الحرب بين أهل البلاد والآريين الغزاة مصدراً لعدد كبير من الأساطير والترانيم والدعوات، كما أن حروب الهندوس شكلت موضوع ملحمة شعرية كبيرة امتزج فيها التاريخ بالأساطير وسميت قصة "مهابهاراتا" وإلى جانبها قامت قصيدة أوسع منها انتشاراً بين عامة الهنود تروي قصة راما وشاعرها فالميكي وظلت معيناً لا ينضب للمسرح مدى 1000 عام. وبالإضافة إلى الشعر برز كتاب بيورانا في القرن السادس ق.م، وهو موسوعة تحوي كل شيء، وكتاب جاتاكا، وهو قصص مليئة بالفكاهة والحكمة، وكتاب بانكاتانترا المكتوب بالسنسكريتية.

عند اليونان اتخذت الأساطير أساساً يقوم عليه الأدب، وهي متعددة ومتنوعة بتنوع وتعدد ظواهر الحياة. أما الرومان فقد أخذوا عن اليونان كل صور الأدب على اختلاف ألوانها، وجاءت الروايات اللاتينية وكأنها يونانية فيها شيء من التعديل والتبديل. وما يستوقف النظر في تاريخ الأدب، أن كتّاب المسرحية كانوا أكثر استعارة من نتاج السابقين، وكأنما أبيحت السرقة الأدبية في هذا النوع من الأدب، فمثلاً موليير وشكسبير ومن عاصرهم استعاروا من الأقدمين شيئاً كثيراً. وفي عقل لوكريشس تزاوجت الفلسفة والشعر فأنتج قصيدة فلسفية أدبية في طبائع الأشياء. أما أول شعراء المراثي الرومان فهو جالَسْ، وفي العصر الفضي اللاتيني عُرف شعر السخرية الذي اصطنعه هوراس في رقة ولطف، وزاده مارشال وجوفنال قوة وعنف. وفي مجال النثر برز اسم شيشرون الذي أصبح إمام النثر اللاتيني في عصره ولعدة قرون تالية، أما في العصور الوسطى فلم يعد النثر اللاتيني أداةً فنية بل لغةً رسمية يصطنعها رجال الكنيسة والفلسفة المدرسية.

وفي العصور الوسطى يمكن تقسيم الأدب على أساس الجنس واللغة إلى أدب جرماني يشمل الأدب الاسكندنافي والإنجليزي، ثم الآداب الكلتية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، وجميع هذه الآداب اشتركت بخصائص وسمات، فالكثرة الغالبة من الملاحم والقصص والأساطير والأغاني من الآداب الأوروبية في تلك العصور كانت تدور حول بطولة الفرسان في الحرب والحب معاً.

أما الأدب العربي في العصور الوسطى فأول ما ظهر منه كان الشعر، وأقدم شعر من ذلك الزمان ما قيل في حرب البسوس أو قبلها بقليل. ومن الملفت للنظر أن أكثر من نبغوا في الشعر كانوا يسكنون شمالي الجزيرة العربية، ومنهم امرؤ القيس وحاتم الطائي والمهلهل وطرفة والأعشى والنابغة وزهير ولبيد. وقد قيل إن المهلهل أول من قصّد القصائد، وامرؤ القيس أول من أطالها وتفنن في موضوعاتها. وأعظم ما خلّفه ذلك العصر هو المعلقات السبع. وفي عهد الفتوحات ارتقى شعر الغزل، لكنه عاد إلى عهده القديم بعد أن استولى الأمويون على الخلافة. وفي العصر العباسي نمت الثقافة العربية وبلغت أوجها. أما في مجال النثر، فمن الطبيعي أن يكون للجاهليين نثر يتكلمون به في شؤون حياتهم، لكن نثرهم الفني الذي صيغ في قالب أدبي كان قليلاً بالنسبة إلى شعرهم.

أما الأدب الفارسي فقد كانت له مكانةً في إيران والبلاد المجاورة لها في العصور الوسطى، كما كان له أثر بيّن فيما أنشأت هذه البلاد من آداب.

عصر النهضة

لأن إيطاليا أقرب الدول الأوروبية إلى اليونان وألصقها بتراث الرومان القديم، فقد أصبحت مهداً للنهوض، وتمثلت طلائعه أولاً في بترارك الذي كان يصغر دانتي بجيل كامل، لكن شهرته غلبت اسم دانتي، وتُوج أميراً للشعراء في روما، أما بوكاتشو فقد كان أول من نبغ بين الكتّاب الإيطاليين في النثر القصصي، وأول ثمراته في الأدب قصيدة ميلو ستراتو، أما قصته فياتما فقد قيل إنها أول قصة تحليلية عرفتها الآداب الأوروبية. وبعد وفاة حبيبته عاد إلى فلورنسا، وهناك أخذ بإنشاء آيته الكبرى كتاب ديكامرون. كذلك برز اسم الكاتب بنفوتو تشليني الذي أضاف إلى النثر الإيطالي تحفه وللأدب العالمي أثراً خالداً.

وفي فرنسا ظهر كل من دي مونكور بييه (فرانسوا فيون) الذي سجل اسمه في قائمة الطلاب لدرجة الأستاذية في الآداب في عامه الثالث عشر، والأديب الفرنسي فيليب دي كومين الذي لم يكن في أدبه بارع الأسلوب، لكنه مثّل روح النهضة لأنه أضاف إلى مميزات العصور الوسطى نزعةً جديدة، ويعتبر أول كاتب فرنسي استحق تسمية مؤرخ. كذلك الكاتب كليمان مارو الذي لقب أبو الشعر الفرنسي. كما شهدت فرنسا منتصف القرن /16/ حركةً أدبية سُميت "السابوع الأدبي" تتألف من رونسار وباييف وبللو وجودل ودي بللي وأستاذهم دورا، ومن بونتيس دي تيار الذي انضم إليهم ليجتمعوا على تجديد اللغة الفرنسية والشعر الفرنسي.

أما الأدب الألماني فلم يستمد قوته من الأعلام البارزين، بل مما بينه وبين الشعب الألماني من صلة وثيقة لا نجد لها مثيلاً بين الشعوب، وقد مثّل الشعر فيها عاملاً قوياً في تكوين عواطف الشعب ونزعاته العقلية، ومن أبرز الادباء الألمان مارتن لوثر وشعراء الغناء منهم هنس سخس وسباستيان برانت، لكن إذا أردنا تلمس النهضة الأدبية في ألمانيا فلن نلتمسها عند أفراد نوابغ بل في الحركة الشعبية التي كان لها أثر ظاهر في طبقات الناس جميعاً.

وفي بريطانيا ظهرت جماعة من الشعراء الميتافيزيقيين الذين عاشوا في النصف الأول من القرن /17/، ومن أبرز شعرائها جون دن مؤسس المدرسة الميتافيزيقية في الشعر وأعظم شعرائها إلى جانب شكسبير وملتن ورودزورث. وفي العصر ذاته تقدم النثر خطوة نحو النثر بمعناه الحديث على يدي فرانس بيكن الذي يرجع إليه الفضل في إدخال المقالة في الأدب الإنجليزي، ومن كتّاب النثر أيضاً توماس براون مؤلف كتاب "رلجيو مديتشي" الذي لم يكد يظهر حتى تُرجم إلى الفرنسية والهولندية والألمانية والإيطالية.

أما الأدب العربي فقد بلغ ذروته قبل سقوط بغداد في النصف الأول من القرن /13/، وقد تغلب الفرس أولاً والترك ثانياً، لكنهم حافظوا على السيادة العربية، وظلت الحركة العلمية والأدبية في عهدهما نامية زاهرة حتى جاء هجوم التتار فأفسد كل شيء.

ففي الشعر شهد هذا العصر صفي الدين الحلي الذي عده البعض أكبر شعراء عصره، ثم ابن نباته المصري والبوصيري والشاب الظريف محمد بن سليمان، وفي مصر اشتهرت الشاعرة عائشة الباعونية والشاعر عبد الله الشبراوي، ومن الشاميين شمس الدين الهلالي وحسين بن الجزري ومنجك باشا وأحمد بن إلياس الكردي، ومن العراق ابن معتوق الموسوي.

وقد كان في هذا العصر نوع من الشعر الشعبي يقال وبه توصف الأحداث وتحكى المشاعر من موشحات وأزجال ودوبيت ومواويل. أما النثر الفني فقسم إلى كتابة ديوانية ورسائل أدبية (إخوانيات). وفيما يخص القصة الشعبية فقد كانت أوفر حياة وأوسع خيالاً ومن أمثلتها ألف ليلة وليلة. كما كان للتصوف صدى في الأدب، وقد اعتبر عبد الغني النابلسي شاعر المتصوفة وعبد الوهاب الشعراني زعيم المتصوفة المؤلفين. كذلك نشطت حركة التأليف في مصر والشام.

في القرن التاسع عشر

لقد تواضع مؤرخو الأدب الإنجليزي على أن يطلقوا على الثلث الأول من القرن /19/ عصر الابتداع (الاهتمام بالمعنى والمادة)، لتمييزه عن عهد الاتباع الذي كان سائداً قبل (العناية باللفظ قبل المعنى والصورة قبل المادة)، وقد يتشابه الاتباعي والابتداعي في المعاني مع وجود سمات ميزت أحدهما عن الآخر. وقد كانت السيادة في هذه الفترة للشعر، وكان أدباء هذا العصر أفراداً بمعنى أن الواحد منهم لا يجري قلمه إلا بتجربته الشخصية الذاتية ومنهم صموئيل كولريدج ووليم ووردزورث اللذان تشاركا إخراج ديوان الحكايات الوجدانية المنظومة وتعد فاتحة العهد الابتداعي الجديد. أما في المقالة فبرز اسم تشارلز لام الذي اتخذ منها أداةً للتعبير عن نفسه، وتومس دي كوينسي صاحب أكبر مجموعة في الأدب الإنكليزي من أدب المتفرقات وأكثرها تنوعاً.

وفي العصر الفيكتوري مثل الشعر شاعران هما ألفرد تنيسون وروبرت براونينغ شاعر الحب كما وصفه بعض النقاد، أما في القصة فبرز تشارلز ديكنز ووليم ثاكري وغيرهما، ومع بداية الربع الأخير من القرن /19/ بدأ تحول الأدب الإنجليزي لأن الحياة الإنجليزية نفسها أخذت في التحول.

أما في الأدب الفرنسي فقد ظهر عاملان إذا ما اجتمعا في أديب أو طائفة من الأدباء كان الكمال، أولهما الرغبة في الدقة التي أضفت على النثر الفرنسي خصائصه، والآخر الميل إلى زخرفة اللفظ والعناية به. ومن أبرز شعراء هذا العصر فرنسوا رينييه دي شاتوبريان الذي تميز شعره بالاعتدال والاتزان، وألفونس دي لامارتين الذي صنع في دولة الشعر ما صنعه شاتوبريان في عالم النثر. أما الأدب القصصي خلال هذا القرن فقد كان أميناً لما شهده العصر من نزعات شتى، ومن أبرز كتّاب القصة لوسيل أورور التي كتبت تحت الاسم المستعار جورج ساند، وكانت مثالاً في الاتجاه الوجداني، وأونوريه دي بلزاك صاحب الاتجاه الواقعي. أما في كتابة التاريخ والنقد فكان أوغسطين تييري وفرانسوا جيزو وجيل ميشيليه أعظم من نفخ الحياة في الماضي.

أما النصف الثاني من القرن /19/ فقد ظهر شارل بودلير من أعظم الشعراء الفرنسيين، وستيفان ملارميه الذي سيطر بقوته على الشعر الفرنسي حتى اليوم.

وفي ألمانيا نشأت مدرسة الابتداع حين أصدر الشقيقان ويلهلم وفريدريك شليغل مجلة أثنيوم الأدبية، وتبعتهما موجة من الابتداعيين كان أحد أعلامها كليمنز برنتانو وفون آرنم. وفي القصة كان فريدريك دي لامت فوكيه الأغزر إنتاجاً والأقرب إلى قلوب القراء. أما في النصف الثاني من القرن /19/ اضطربت الحركة السياسية واضطرب الأدب، ولم تكن له وجهة معينة يمكن أن توصف بها تلك الفترة من تاريخ آدابهم.

وفي روسيا لم تثمر النهضة إلا في بداية القرن /19/، فحين بدأ إسكندر بوشكين يقرض الشعر جاءت آثاره الأدبية دليلاً على شخصية الكاتب ومزاجه وعناصر تكوينه. ثم جاء الشاعر ميخائيل ليرمونتوف الذي عبر عن تشاؤمه في خير إنتاجه الأدبي "الشيطان"، والقصصي نقولا غوغول والكاتب إيفان تورغنيف والأديب فيودور دوستويفسكي وعملاق الأدب العالمي ليف تولستوي وأنطون تشيخوف.

وإلى أميركا رحل كثير من متزمتي إنجلترا حيث أشاعوا فيها شيئاً من روحهم الدينية، لذلك نشأت فيها طائفة من الأدباء تعبر عن هذه الروح منهم رالف والدو إيمرسون المتزمت في الدين والأخلاق، أما إدغار ألن بو فقد احتل في الأدب الأميركي مكاناً فريداً وهو منشئ القصة البوليسية، وجعل من الحوادث المفزعة موضوعاً للفن الأدبي. كذلك كان من كتاب ذلك العصر الكاتب الفكاهي واشنطن إيرفينغ، وأعظم الأدباء الناشرين في أميركا مارك توين.

أما الأدب العربي فقد كان قبل النهضة الحديثة شديد الهزال، حتى إذا جاء عصر النهضة بدأ المتطلعون على الآداب الغربية يقتبسون منها ومن أمثلتهم محمد عثمان جلال الذي ترجم رواية بول وفرجيني وقصص لافونتين ونشرها في كتاب اسمه "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ". أما الشعر فقد تأثر بعوامل النهضة لكن تقدمه لم يكن طفرة بل كان تدرجاً، فضعف المديح وقلت العناية بالهجاء واستمر الغزل محافظاً على مركزه في الشعر الجديد، وخلفت المدنية والظروف الاجتماعية الشعر السياسي والاجتماعي، وظهر الشعر التمثيلي، وكان البارودي أول ناهض بالشعر العربي ساعدته الظروف الخاصة على هذا النضج الشعري، ثم انتقل الشعر خطوة جديدة وتحول للنظر إلى الشعوب والإكثار من موضوعات الوطنيات والقوميات والاجتماعيات. أما النثر فكان حظه في الرقي خيراً من حظ الشعر، واستطاع التحرر من القيود الثقيلة التي كان يتقيد بها، كما تقدم من ناحية القصد في المقال إلى معنى واحد محدد. ويعتبر رفاعة رافع الطهطاوي صاحب الخطوة الأولى في تطور النثر. لكن القصة لم يعلُ شأنها إلا بعد أن احتك الشرق بالغرب، فبدأ الأدباء ترجمة بعض القصص عن الغرب، ثم جاءت الخطوة الثانية بتأليف الروايات على نسق ما يفعله الغربيون، وفي الترجمة حققت البلاد العربية نقلةً بتأسيس مدرسة الألسن. وكذلك شملت النهضة التأليف في اللغة والأدب وما يتصل بهما، وكان من أبرز المؤلفين في سورية الشيخ ناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق، ومن مصر الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري.

----

الكتاب: قصة الأدب في العالم، ثلاثة أجزاء

الكاتب: زكي نجيب محمود، أحمد أمين

الناشر: مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2021. صدرت الطبعة الأولى عام 1943.