ولد عبد الرحمن بن خلدون في تونس سنة 732 هجرية، ولما بلغ سن التعلم بدأ بحفظ القرآن الكريم وتجويده، وقد كان أبوه معلمه الأول، كما درس العلوم اللسانية من لغة ونحو وصرف وبلاغة وأدب، ثم درس المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية، وحظي في جميع دراساته بإعجاب معلميه وأساتذته.

تبدو عبقرية ابن خلدون ونبوغه في نواحٍ كثيرة أهمها أنه المنشئ الأول لعلم الاجتماع، وإمام ومجدد في علم التاريخ، ومجدد في فن الأتوبيوغرافيا أي ترجمة المؤلف لنفسه، وإمام ومجدد في أسلوب الكتابة العربية وفي بحوث التربية والتعليم وعلم النفس التربوي والتعليمي، كما أنه راسخ القدم في علوم الحديث والفقه المالكي[1].

وقد كان لابن خلدون الفيلسوف السياسي عقلية شديدة الغرابة، فقد كونته دراسة طويلة راسخة لجميع العلوم التي عرفهما العرب إلى عهده، وخبرة مستمرة بالاضطرابات السياسية التي هي كل التاريخ الإسلامي في القرن الثامن الهجري. كما أن علم التوحيد بجميع دقائقه، ومباحث ما بعد الطبيعة اليونانية والعربية المشهورة بميلها إلى التعميم السريع، والآداب العربية ذات التقاليد المتينة، والخبرة الشخصية التي هي ثمرة أعوام طويلة من الحياة السياسية، كل هذه قد طبعته بطابع عميق، وقد أسبغ عليه ذلك الذهن الضليع شخصية بارزة جداً شديدة الوضوح، نشعر بها في كل مؤلفاته، وإليها يرجع الفضل في استحالة خلطه بغيره من كتاب جنسه وعصره.

وابن خلدون هو أول فيلسوف اتخذ من المجتمع موضوعاً لعلم مستقل، ويؤكد أن العلم الذي وضعه مستقل لأن له على حسب المنطق العربي الخواص الحقيقية للعلم المستقل، فله موضوع خاص، ومسائله وغايته، ويحاول أن يميزه عن بعض العلوم التي كانت معروفة قبله والتي قد ترتبط به وهي المنطق والبلاغة والسياسة، كما يرى أن بعض المسائل التي يبحث عنها ذلك العلم درست في علوم أخرى، لكنها لم تدرس بنفس الطريقة ولا لنفس الغاية[2].

مقدمة ابن خلدون

وأهم أثر لابن خلدون هو كتابه الكبير في التاريخ الذي سماه "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، وقد جرت العادة على اختصار اسمه في كلمتي "كتاب العبر". وقد نهج في تنظيم مؤلفه نهجاً جديداً يختلف عن نهج كثير ممن كتبوا في التاريخ من قبله، فقد قسم مؤلفه إلى كتب، وقسم كل كتاب إلى فصول متصلة، وتتبع تاريخ كل دولة على حدة من البداية إلى النهاية، مع مراعاة نقط الوصل والتداخل بين مختلف الدول، وصحيح أنه ليس أول من ابتدع هذه الطريقة، لكنه امتاز ببراعة التنظيم والربط وحسن السبك، والوضوح والدقة في تبويب الموضوعات والفهارس.

كذلك برع في فن الأتوبيوغرافيا، أي ترجمة المؤلف لنفسه، حيث يعتبر أول باحث عربي يكتب عن نفسه ترجمة رائعة مستفيضة، كتبها بدقة المؤرخ الأمين الحريص على الاستيعاب والشمول، وبذلك دخلت هذه الترجمة من بعض نواحيها في الفن التاريخي الذي اشتهر باسم "الاعترافات" كاعترافات الغزالي وجان جاك روسو.

ويُعد ابن خلدون من كبار أئمة الأدب وأعلام البيان العربي وأبرز المجددين في أسلوب الكتابة العربية، فقد سلك في كتابة الرسائل العادية والحكومية وفي تدوين المؤلفات أسلوباً جديداً يمتاز بالسهولة والوضوح والتعبير الدقيق عن الحقائق وقوة التدليل وترابط الفكرة وحسن الأداء والتناسق، وتخيّر المفردات والتراكيب العربية السليمة والتخلص من قيود السجع ومحسنات البديع، فكان أسلوبه هذا إحياء للأسلوب العربي الأصيل الذي امتازت به العربية في عهودها الذهبية الأولى. وعلى الرغم من سمو هذا الأسلوب وسهولته، فإنه لم يكن له أثر يعتد به في أقلام الكتّاب والمؤلفين المعاصرين لابن خلدون ولا من جاء بعده أثناء القرون الخمسة التالية لوفاته، وظل أسلوب الكتابة في معظم البلاد العربية على هذا الحال حتى طُبعت مقدمة ابن خلدون في مصر منتصف القرن التاسع عشر ثم في بيروت، وعمّ انتشارها وكثر تداولها بين الناس، وتقرر تدريسها في بعض معاهد العلم. ففضل المقدمة لم يكن عظيماً على العلوم فحسب، بل على الآداب كذلك، إذ أنشأت علماً جديداً هو "علم الاجتماع"، كما أحيت أسلوباً عربياً قويماً يبين عن الفكر بأيسر وسيلة وأمثل طريق يذلل وسائل الفهم والتعبير.

ولما كانت بحوثه في الاجتماع قد انتهت به إلى أفكار جديدة لا توجد في الكلمات المألوفة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، اضطر إلى الاشتقاق من بعض الأصول العربية مفردات لم يسبق اشتقاقها منها، واستخدم كثيراً من المفردات والعبارات في معانٍ علمية لم يسبق استعمالها فيها، فقد أطلق كلمة "العمران" على الاجتماع الإنساني، و"علم العمران" على البحوث التي تدرس ظواهر هذا الاجتماع، و"العصبية" على القوة والمنعة الناشئتين من روابط القرابة بين أفراد العشيرة أو القبيلة، و"العرب" بمعنى البدو[3].

وتشغل البحوث في مسائل التربية والتعليم وعلم النفس التربوي والتعليمي وما يتصل بهما، قسماً كبيراً في المقدمة السادسة من الباب الأول، ونحو عشرة فصول في آخر بابها الخامس، ومعظم بابها السادس، وهو الباب الذي يستغرق وحده نحو ثلث المقدمة. كما عرض لتاريخ جميع العلوم والفنون المعروفة في عصره بما فيها السحر والطلسمات والزيرجة وأسرار الحروف والطب الروحاني. وعرض للنفس الإنسانية وصلتها بالجسد ومظاهرها الإدراكية والوجدانية والنزوعية، وتصرفاتها في حالة اليقظة والنوم، وبعض التصرفات السيكولوجية الغريبة، وطبيعة الفكر الإنساني والعقول التجريبية وكيفية حدوثها، وطريقة كسب المعلومات الحديثة.

وكان ابن خلدون راسخ القدم في علوم الحديث بمختلف أنواعها، لكن شهرته في الفقه المالكي كانت أقوى بكثير، وقد كتب في المقدمة فصلين عن علوم الفقه والفرائض، كما عُين في مصر أستاذاً للفقه المالكي بمدرستين من أرقى المدارس، وعُين قاضي قضاة المالكيين ست مرات. كذلك عرض في مقدمته لعلم التوحيد أو الكلام في فصلين طويلين، أحدها مثبت في جميع نسخ المقدمة وعنوانه "علم الكلام"، والآخر مثبت في بعض نسخ المقدمة الخطية دون بعض.

كما عالج ابن خلدون الشعر ونظم عدة قصائد في صباه وشبابه، وظل يمارسه إلى أن بلغ منتصف العقد الخامس من عمره، ثم تفرغ للعلم والتأليف، وإلى جانب ذلك اهتم بعلمي المنطق والفلسفة بمعناها الخاص الحديث أي الميتافيزيقا، فعرض لها في الفصل العشرين من الباب السادس والذي وضع له عنوان "العلوم العقلية وأصنافها"، فشغل هذا الفصل بالحديث عن المنطق والفلسفة عند اليونان والعرب، ووقف في الفصل الرابع والعشرين على علم المنطق، فتكلم عن موضوع العلم وفائدته ومسائله وأقسامه وتاريخه وأدواره وكتاب الأورغانون لأرسطو ومؤلفات الفارابي وابن سينا وابن رشد في المنطق. ووقف الفصل الثامن والعشرون من الباب السادس على الإلهيات أو الميتافيزيقا، كذلك تعرض للعلوم الطبيعية في عدة مواطن من مقدمته في صورة تدل أوضح دلالة على سعة اطلاعه وتمكنه من هذه العلوم[4].

في نظر علماء الغرب

لم تثر مقدمة ابن خلدون اهتمام المستشرقين إلا بعد العقد الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تخرج من ساحة الاستشراق لتدخل ساحة أبحاث العلماء إلا بعد العقد السابع من ذات القرن. لكن في الواقع لم تبقَ مجهولة لدى المستشرقين حتى ذلك التاريخ، فإن "دربلو" في أواخر القرن السابع عشر و"سيلفستر دو ساسي" في أوائل القرن التاسع عشر كتبا بعض المعلومات عن ابن خلدون ونشرا بعض المقتطفات من مقدمته، غير أن اسم ابن خلدون لم يبرز بروزاً كافياً بين أسماء الألوف من مؤلفي العرب التي كانت تمر أمام أنظار المستشرقين، كما أن المقدمة لم تبرز البروز الذي تستحقه من بين آلاف المؤلفات العربية التي كانت تسترعي دراستهم ومطالعتهم.

والحقيقة إن إبراز أهمية المقدمة لم يتم إلا بعد نشرات "هامر" وشولتز"، فقد نشر "هامر" رسالة بالألمانية عن بعض النواحي من تاريخ الإسلام أشار فيها إلى بعض آراء ابن خلدون ولقبه بـ "مونتسكيو العرب"، ثم نشر مقالاً في المجلة الأسبوعية باللغة الفرنسية عام 1822 عن المقدمة لفت بها أنظار المستشرقين إليها قائلاً: "إن إصابة المحاكمة وسلامة النقد اللتين تسودان المقدمة تبهر أنظار كل من يطالعها"، وأضاف: "قلما يوجد بين المؤلفات الشرقية ما يستحق الترجمة ترجمة تامة بقدر تأليف ابن خلدون هذا". وأثناء انشغال "هامر" بجمع الوثائق اللازمة لكتابة تاريخه الكبير عن الدولة العثمانية، لاحظ أن مقدمة ابن خلدون تُقرأ بعاصمة الدولة العثمانية بشغف عظيم، فكتب: "إن مقدمة ابن خلدون من أهم المؤلفات المنتشرة في عاصمة السلطنة العثمانية، وهي مما يطالعه جميع رجال الدولة والوزراء وأمراء الأروام والتراجمة المثقفين". ثم قام "شولتز" سنة 1825 بدعاية قوية لمقدمة ابن خلدون، فنشر في المجلة الأسبوعية مقالاً حول المؤلف التاريخي الانتقادي الكبير لابن خلدون، دعا فيه إلى طبع المقدمة وترجمتها بالكامل[5].

لكن المقدمة لم تُقدر حقّ تقديرها إلا من جراء الأبحاث التي نشرت بعد ظهور ترجمتها الفرنسية؛ حيث يمكن القول إن البارون "دو سلان" خدم ذكرى ابن خلدون خدمة لا تُقدر بثمن، بإقدامه على ترجمة المقدمة بتمامها، حيث أثر انتشار ترجمتها في العلماء والمفكرين الذين اطلعوا عليها تأثيراً عميقاً، وولد في نفوسهم إعجاباً شديداً بعبقرية المفكر العربي العظيم، كذلك بعد انتشارها صار علماء الاقتصاد والتاريخ والاجتماع يطلعون على آراء ابن خلدون، ويلفتون الأنظار إلى ما يجدون بينها من النظريات القيمة حول بعض المسائل التي لم يفرغوا من درسها وبحثها إلا في المدة الأخيرة، فقلد كانوا يزعمون أن "أوغست كونت" هو الذي أسس علم الاجتماع على أسس علمية، لكنهم علموا بعدئذٍ أن ابن خلدون قد سبق "كونت" إلى ذلك قبل مدة تزيد على أربعة قرون ونصف القرن.

العالم الاجتماعي "لودويك غومبلوفيتش" كتب بحثاً هاماً عن نظريات ابن خلدون، ورأى أنه يُعتبر مفكراً عصرياً بكل معنى الكلمة، وأنه درس الحوادث الاجتماعية بعقل هادئ، وأبدى في هذا الموضوع آراءً عميقة جداً ليس قبل "كونت" فحسب بل وقبل "فيكو" أيضاً.

بدوره قال "ستيفانو كولوريو" إنه ليس لأحد أن ينكر أن ابن خلدون اكتشف مناطق مجهولة في علم الاجتماع، وسبق "ميكافيلي" و"مونتسكيو" و"فيكو" إلى وضع علم جديد هو النقد التاريخي، مضيفاً أن مبدأ الحتمية الاجتماعية يعود الفخر في تقريره إلى ابن خلدون قبل رجال الفلسفة الإثباتية وعلماء النفس بقرون طويلة، مبيناً أن المؤرخ المغربي العظيم اكتشف مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي قبل "كونسيدران" و"ماركس" و"باكونين" بخمسة قرون، وأن نظرياته في حياة المجتمع المعقدة تضعه في مقدمة فلاسفة التاريخ، فإن ما يعزوه من شأن كبير إلى دور العمل والملاكة والأجرة يجعله إماماً وسلفاً لاقتصاديي هذا العصر[6].

----

المراجع

[1] عبد الرحمن بن خلدون، حياته وآثاره ومظاهر عبقريته، على عبد الواحد وافي، مكتبة مصر للنشر، ص 26- 134.

[2] فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، د. طه حسين، القراءة للجميع 2006، ص 39- 40- 60- 66.

[3] عبد الرحمن بن خلدون، حياته آثاره ومظاهر عبقريته، مرجع سابق، ص 229- 236- 239- 244- 247- 250.

[4] المرجع السابق، ص 251- 252- 261- 267- 269- 275- 281- 288- 294- 307- 309- 312.

[5] دراسات عن مقدمة ابن خلدون، ساطع الحصري، مؤسسة هنداوي، 1961، ص 227- 228.

[6] المرجع السابق، ص 229- 230- 232.