استطاع الباحث الأستاذ فوزي معروف اقتحام عالم التراث ببحث قل من تطرق إليه في التراث الشعبي؛ حيث أعد دراسة أسماها "المثل الشعبي والمرأة"، وتخللت رؤيته تلك جوانب اجتماعية متنوعة.

يذكر الكاتب الراحل فوزي معروف أن من يتعامل مع التراث الشعبي في الوطن العربي وبخاصة السير الشعبية والأمثال الشعبية، يدهش للتناقض العجيب بين الواقع السياسي القائم وبين الوحدة الماثلة في الوجدان الشعبي العربي التي تتغلب، حين لا توضع أمامها العراقيل، على كل التناقضات الظاهرة على السطح، وما أجمل أن تعمل على إحياء هذا الحس الوحدوي المدهش بأن نبعث الحياة بهذا التراث الشعبي الموحد في الوقت الذي تتكثف فيه هجمات الغزو الثقافي والعولمة لاختراق الثقافة العربية الحصن الواقي للوحدة القومية والحس الشعبي الواحد. ولا يغيب عن البال أن السير الشعبية الشهيرة في كافة أنحاء الوطن العربي الكبير كانت وليدة أوقات الخطر الخارجي على العرب، فسيرة عنترة بن شداد تعكس معارك العرب ضد هجمات الروم والفرس قبل الإسلام، وسيرة الظاهر بيبرس تعكس التضامن العربي ضد الغزو الفرنجي القادم من أوروبا، وسيرة (سيف بن ذي يزن) تعكس الحروب العربية التي خاضها اليمن جنوب الجزيرة العربية ضد الغزو الحبشي حتى بدايات ظهور الإسلام. وهذا ما جعل السير الشعبية تلعب دوراً خطيراً في تاريخ الموقف الشعبي الذي أهمله التاريخ الرسمي والذي يرتكز على التضامن الشامل في مواجهة الخطر الخارجي.

في أيامنا هذه لا تتجلى وحدة الأمة العربية كما تتجلى في المأثورات الشعبية عامة وفي الأمثال الشعبية بخاصة، فلا تكاد تجد فرقاً في مثل شعبي يروى في هذا الجزء من الوطن العربي أو ذاك من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وإذا اختلفت بعض الكلمات في بعض الأمثال، فإن معناها العام واحد، قد تختلف كلمة في مثل شعبي يروى في هذا البلد عن المثل نفسه حين يروى في بلد آخر ولكن معنى المثل واحد، الأمر الذي يؤكده الواقع كل يوم.

ويؤكد الكاتب أن كثيراً من الشعوب، تعـود الآن إلى الاهتمام بأدبـهـا الشـعبي، إذ فيـه تكمـن عظمـة الوحدة في المشاعر والقيم. فعلى سبيل المثال نجد أن الأدب الشعبي الألماني جزء من الدراسة التي تربي عليها الألمان في الحضانة والابتدائي والثانوي وفي الجامعة، وهم يدرسون اللغة الفصيحة وإلى جانبها النص الشعبي، على اعتبار أن التراث الشعبي والتراث الفصيح يمثلان الخصوصية الثقافية للأمة عبر تطورها. وهناك رواد كبار نظروا نظرة وطنية قومية شاملة إلى التراث العربي الفصيح منه والشعبي، وألفـوا فيـه، نذكر منهم "أحمد تيمور" و"أحمد أمين" و"الدكتور عبد الحميد يونس" الذي كان أول أستاذ لتدريس الأدب الشعبي في جامعة القاهرة. ورصدوا في كتاباتهم ذلك الحس الشعبي الجماعي الموحد الذي يتكون عبر العيش المشترك خلال التاريخ المشترك في حصن ثقافة شاملة مشتركة. وهناك أكثر من دليل على أن الأدب الشعبي مثل المثل الشعبي - حين يكون أصيلاً لا يعترف بالحدود بل ينتشر مثل ضوء الشمس والأمثلة كثيرة في الأشعار "بيرم التونسي - صلاح جاهين - عبد الرحمن الأبنودي - أحمد فؤاد نجم" وفي الأغاني التي يرددها العرب أينما كانوا "الأرض بتتكلم عربي" وكثير من أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ. لعل المثل أكثر أنواع الأدب الشعبي اختراقاً للحدود إنكاراً للتجزئة التي تكرسها السياسة وذلك لأسباب تتعلق بالنص الشعبي عامة والمثل بخاصة، فالنص الشعبي جريء لأنه خال من الرقابة مصقول من خلال دورانه على ألسنة الناس ويبقى في حالة صقل لأنه متداول ولا يصبح نصاً شعبياً إلا بعد أن تتم مرحلة الصقل ويصبح لـه شـكل وإيقاع ومعنى ورؤية جماعية لا فردية وبـعد فلسفي كونـي، عندها يثبت النص فنسميه أمثالاً شعبية أو قصصاً شعبية أو حكايات.

إن كثيراً من أمثال الشعوب تلتقي في حديثها عن بعض القضايا، لأنها تنطلق من التجربة الإنسانية المشتركة التي يمارسها الإنسان في حياته اليومية. فعلى سبيل المثال إن فكرة المثل الذي يقول "إن غاب القط العب يا فار" منتشرة في جميع أنحاء العالم، كما تشترك شعوب كثيرة في العالم في الفكرة التي تعبر عنها بعض الأمثال:

- اللي يبيع المي بحارة السقايين.

- مثل جايب التمر إلى هجر.

تنتقل الثقافة وتستمر كما يقول (تايلور)، لأن العناصر والملامح الثقافية لها قدرة هائلة على الانتقال من جيل إلى جيل ومن مكان إلى آخر. قد يزول السبب الذي أدى إلى ظهور المثل من دون أن يستلزم ذلك اختفاء المثل أو زواله، لأن الأمثال الشعبية تهاجر من مكان إلى مكان، وقد يتعرض كثير من جوانب الثقافة الشعبية إلى عوامل تتغير ومع ذلك تفلح عناصر كثيرة من الثقافة الشعبية وأبرزها المثل في البقاء والاستمرار محتفظة بصورتها التي ولدت عليها. إن معظم ما توارثناه ما زال يعيش معنا بهذا الشكل أو ذاك، وإلا فما معنى أن نلجأ ونحن في ذروة الفرح أو الحزن إلى الفن الشعبي رغم تقدم وسائل الاتصال التي تقدم كل ساعة مختلف ألوان الفنون؟

إن الكثير من الأمثال الشعبية ما زال ينطبق على عديد من أحداث الحياة المتجددة التي لا تنفد، ويواصل المأثور الشعبي في معظم جوانبه الحيـاة، رغم أن بعض الدارسين في هذا المجال قد تنبأ بمـوت الفن الشعبي نتيجة لتطور الفنون ووسائل لاتصال.

العرب والمثل الشعبي

من المعروف أن أهل الشرق هم أول من تحدث بالأمثال، ومن المعروف أيضاً أن الشرقي يقص الأمثال. وقد اهتدى العرب منذ وقت مبكر إلى ما في الأمثال من أفكار فذة وجمال بلاغي فميزوها عن عناصر الفولكلور الباقية، فكانت أبرز الألوان النثرية في الحياة العربية قبل التدوين، ونسبوها إلى الحكماء والعرافين والكهان الذين كانت أكثر كلماتهم تضرب مثلاً أو تجري مجرى الأمثال.

وإذا كـنـا نعـرف قائلي بعض الأمثال، إلا أن معظم الأمثال الشعبية مجهولة القائل، ولذلك لا يحتفل الناس بقائل المثل كما يحتفلون بقائل الشعر أو كاتب المسرحية أو القصة أو أي جنس آخر من الأجناس الأدبية المعروفة. لا يعرف قائل المثل، فقد تكون قالته امرأة في بيت أو فلاح في حقل أو عامل في مصنع أو معلم في مدرسة أو رجل في الطريق، ثم بعد ذلك انتشر بين الناس دون أن يلقى صاحبه الاهتمام، لهذا كانت الأمثال تنتمي إلى الشعب، وهي عند معظم الباحثين تعبر عن شخصية الجماعة أكثر مما تعبر عن شخصية الفرد.

----

الكتاب: المثل الشعبي والمرأة

الكاتب: فوزي معروف

الناشر: دار مطبعة الفقيه، السويداء، 2002