الدكتور "عادل العوا" واحد من القامات الفكرية والأكاديمية المهمة في تاريخ سورية المعاصر، عُرِف بغزارة إنتاجه الفكري، تأليفاً وترجمة، إضافة إلى عمله التربوي التعليمي والأكاديمي في جامعة دمشق.

سعى الدكتور عادل العوا إلى نشر رسالته الثقافية والفكرية والتنويرية، فهو فيلسوف الأخلاق بامتياز. عني بفلسفة الأخلاق ومنظومة القيم، والدور الذي تلعبه هذه الفلسفة في حياة الإنسان والمجتمع.

حول النظرة الأخلاقية، أوضح الأستاذ الدكتور "ياسر مراد" المدرس في جامعة دمشق الثانية كلية الآداب بالسويداء قسم الفلسفة، أنه لا يوجد انفصال بين الأخلاق والواقع الإنساني المعاش، فالأخلاق لا تبحث فقط في الوجود الإنساني كما يجب أن يكون، وإنما تبحث في الوجود الإنساني الراهن المشخّص، وتنظر إليه في ضوء واقعه الراهن نظرتها إلى كائن يبذل جهده لتحقيق توازن بين فاعليات كثيرة تتوزع كيانه، وتنتهب وجوده، وبالتالي تتناول الإنسان الذي يسعى إلى تنظيم قيمه بما يحقق اتساقه مع الآخرين، ومع الكون. وهكذا لا يمكن الحديث عن وقائع أخلاقية منفصلة عن الواقع الإنساني المعاش، فهناك بعض الاتجاهات في الفلسفة تجد أن القضايا والعبارات الأخلاقية لا تعبّر سوى عن عواطف المتكلم، وهي مجرد وصايا وأوامر لا تعبّر عن الواقع، كما أنها بلا معنى.

إلا أن ربط الأخلاق بالواقع الإنساني المعاش، يعطي القيمة دوراً في صياغة الإنسان لواقعه، وهذا يمهد الطريق لإرساء دعائم أخلاق شخصانية قائمة على الواقع ونشاطه. ضمن هذا السياق يميز الدكتور العوا بين نظرتين للأخلاق: النظرة الازدرائية التي ترى عدم وجود أي تأثير للأخلاق في حياة الإنسان ولا في توجيه شؤونه، والحياة الإنسانية، أو إن صح التعبير وقائع الحياة الإنسانية، تجري وفق قوانين تحدد سيرها، في حين أن النظرة الإيجابية ترى أن الأخلاق تنطلق من الواقع الإنساني المعاش، وهي تعي الواقع وتعي إمكانات تغيير الواقع نحو الأفضل، وهي تؤمن بأن الإنسان يمتلك الإرادة في توجيه مصيره ومستقبله، وهو صانع قدره بنفسه، ومسؤول عما يفعل. وبالتالي فالحياة ليست قدراً مفروضاً على الإنسان، وإنما فضاء من الإمكانات يتمكن الإنسان من خلالها –اعتماداً على الحرية- من المساهمة في تكوين مصيره الفردي ومصيره الجمعي.

وعن القلق عند جيل الشباب يشخّص الدكتور العوا القلق الذي يعاني منه الشباب، ويربطه بأسباب ودوافع فكرية ونفسية واجتماعية، ويرى أنه على الرغم من أن القلق حالة تنتاب الشباب في الحاضر، إلا أنه يرتبط بالمستقبل، المستقبل المجهول غير المعروف، لأن القلق هو تساؤل عن المستقبل بحسب التجربة الراهنة، وهذا التساؤل يحتاج إلى إجابة، والإجابة مرتبطة هنا بالحالة الفكرية والثقافية الراهنة. أضف إلى ذلك أن الانفصال بين الواقع والمثل الأعلى يضفي حالة من القلق عند الشباب بشكل عام، والشباب المثقف بشكل خاص، فعدم المطابقة بين ما يوجد (الواقع)، وما ينبغي أن يكون (الهدف أو المثل الأعلى) يسبب حالة من القلق لدى الشباب الذي يعيش في المستقبل أكثر مما يعيش في الحاضر والماضي، المستقبل موجود ونحن نسير إليه –على حد تعبير برجسون- إلا أنه مجهول، وقد نتصوره على نحو ما، ويتحقق على نحو آخر.

كما يمكن ربط القلق بالتقدم العلمي والتقني الذي يسير بوتيرة متسارعة، حيث يرخي هذا التقدم بظلاله على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ويجعل حالة القلق عامة عند الناس، وعند الشباب المثقف بشكل خاص، لأنه يتناول مصير الحضارة، وبالتالي فإن القلق هو حالة ملازمة للعصر. وعلى هذا يرى الدكتور العوا أن القلق ليس شراً، وإنما هو صفة تلازم الثقافة الحديثة وتستجيب للتطورات العلمية والاقتصادية والاجتماعية في العالم بأسره، وكأن الإنسان المعاصر إنسان قلق بالطبع، وقلقه مصدر تفهُّمهِ للحياة على وجه جديد، وهو البذل الايجابي لتحقيق إنسانية الإنسان بدل قياس هذه الإنسانية على صورة أنموذجية ساكنة وادعة جامدة، وكأنها لا تريد التغيّر. وهكذا فإن القلق حالة طبيعية، والحديث عن علاج القلق باعتباره مرضاً ليس له أي أساس من الصحة، والتركيز هنا على القلق وأسبابه يعد القلق حالة إيجابية يستطيع من خلالها الشباب السعي إلى بناء مستقبل يتلاءم مع المثل الأعلى المنشود، وبالتالي -وفقاً لتحليل الدكتور العوا- فإن حالة القلق التي يعاني منها الشباب تشكّل الدافع الداخلي الذي يساهم في تكييف الواقع وفقاً للمثل الأعلى، وهو محرك التطور والتقدم، ويرى أن القلق لا يزول لأنه صنو التجربة، فما دام الإنسان حياً فهو قلق على مستقبله ومستقبل البشرية، كما أن القلق يختلف بحسب الثقافة، وهو طبع الشباب لأنه يعيش المستقبل ويحاول التكامل، وهذه هي رسالته، ولو سلخناه عن الشباب لتوقَّفت المدنية ولتوقَّف العلم.

أما عن دور المرأة في بناء المجتمع، فقد نوه الدكتور ياسر مراد إلى أن للدكتور العوا رأياً فيما يتعلق برسالة المرأة ودورها في بناء المجتمع. قد يعتقد البعض أن موضوع المرأة والمدافعة عن حقوقها والدعوة إلى إثبات كيانها إنما أصبح موضوعاً مطروقاً بشكل كبير، إلا أن الآراء التي سوف نضيء عليها هنا طرحها الدكتور العوا في بداية الخمسينيات، في الفترة التي كانت المرأة ما زالت تكافح في سبيل الخروج من عزلة المنزل لتأخذ دورها في بناء المجتمع إلى جانب دورها المهم في بناء الأسرة؛ لذا فإن أهمية هذه الأفكار تنبع من السياق الذي طُرحت فيه في تلك الفترة، كما أنها تُعبّر آنذاك عن رؤية مستقبلية تخص موضوع حرية المرأة وعملها ودورها في بناء المجتمع. وضمن هذا السياق يبيّن الدكتور العوا أن المرأة عنصر بشري فعّال في الكيان الإنساني، وعملها مكمّل لعمل الرجل، ورسالتها لا تختلف عن رسالته، فمن الناحية الاجتماعية فإن كليهما يعمل من أجل مصلحة الأمة والبلاد، كما أنهما يمتلكان الحقوق ذاتها وتترتب عليهما واجبات المواطن ذاتها. وهذا يُعتبر أصل المساواة الاخلاقية في الكرامة والحقوق. بالإضافة إلى ذلك فإن تقدم الأمة لتواكب الحضارة يتطلب تظافر جهود أبنائها كلّهم؛ لذلك يغدو عمل المرأة أمراً ضرورياً، والعمل هنا لا ينحصر في مجال معيّن دون مجال آخر، وإنما تستطيع المرأة أن تدخل الميدان الذي يلائم طبيعتها وقدراتها.

بالطبع هناك نتائج تترتب على عمل المرأة خارج المنزل، والنظر في هذه النتائج نسبي يختلف من أسرة إلى أُخرى، فكل أسرة حالة خاصة، وهي التي تحكم فيما يتعلق بعمل المرأة والنتائج المترتبة عليه، وتوازن بين محاسن هذا العمل ومساوئه، وتضع الوسائل المناسبة من أجل تلافي أو تجاوز هذه النتائج السلبية.

العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة ضمن نطاق الأسرة، ليست علاقة ندية، وهنا ينظر الدكتور العوا إلى الأسرة على أنها مجتمع صغير يتحمل فيه رب الأسرة المسؤولية الكبرى، ولكي ينجح في الاضطلاع بهذه المسؤولية يجب أن يقاسمه الرأي إنسان آخر له علاقة بتنفيذ القرارات التي تساهم في الحفاظ على هذا المجتمع وسيره بالشكل الأمثل؛ لذلك فإن الزوجة هي شريك رب الأسرة في اتخاذ القرار، تساعده على فهم مسؤوليته، وتساهم معه في ضمان استقرار الأسرة.

العلاقة مع الفكر الغربي

لا يصف الدكتور العوا الوطن العربي بالكبير، لأنه وطن واحد لا تتميز فيه إمكانات التفاوت بالحجم، وبالتالي هذه نظرة تترفع عن كل الاعتبارات القطرية والإقليمية، على اعتبار أن الأمة العربية لها كيان واحد ووجود واحد، وهذا يُعبّر عن وحدة الفكر العربي ووحدة رسالته لكي يقوم بالدور المنوط به في المساهمة في بناء مستقبل الفكر الإنساني وفي بناء الحضارة الإنسانية؛ لذا يجب على الأمة أن تعي ذاتها، قوميتها ورسالتها معاً، فقوميتها هي شخصيتها التاريخية المتطورة التي لا يمكن أن تكون ذات طبيعة سكونية أبداً، ورسالتها هي رسالة العرب الإنسانية المفتوحة سابقاً وحاضراً ومستقبلاً على أماني البشرية وأهدافها في صنع الحضارة، والمساهمة في بناء إنسانية الإنسان.

في الحقيقة يطرح الدكتور العوا مسألة الأصالة والتجديد، ولا يرى في الماضي عقبة تقف أمام الفكر العربي، على اعتبار أن هناك من يرى أن هذا الفكر مؤطر بماضيه ومولع به، فالفكر العربي –والرأي للدكتور العوا- لا يمكن أن يتحرر من ماضيه، وإلا فإنه سوف يخسر أصالته وهويته. إلا أن تعلقه بالماضي يجب ألا يجعل الفكر غافلاً عن حاضره، بمعنى أن يكون الماضي ذخيرة تمد الحاضر، وفي الوقت ذاته تُعد للمستقبل، وبالتالي يستفيد الفكر هنا من الماضي في بناء الحاضر والإعداد للمستقبل. بالإضافة إلى ذلك فإن دراسة التراث العربي يساهم في استخلاص السمات التي يتميز بها الفكر العربي من ناحية، ومن ناحية ثانية تكون استجابة لمعطيات جديدة يتم من خلالها تقويم ما سبق تقويمه.

ما يميز الفكر العربي المعاصر هو استجابته للانفتاح العالمي من حيث سبل التواصل الثقافي، فهو فكر لا يتقوقع على نفسه، ويمثّل استجابة للكثير مما يتميز به الفكر الفلسفي العالمي. ضمن هذا السياق يبيّن الدكتور العوا أن المعركة مع الغرب ليست قائمة على أسباب محض فكرية، وإنما تعود أيضاً لواقع العلاقة الاستعمارية، ويجب علينا ألا نحاول القطيعة مع هذا الغرب فكراً، وأن ننطلق من ذواتنا من دون عُقَد، وهذا يدل على ضرورة وضع الفكر العربي ضمن الاطار العالمي، فالعرب لم يكونوا يوماً منقطعين أو منعزلين عن الثقافات الأُخرى، أخذوا منها، وتفاعلوا معها. إذاً لا يمكن عزل الرسالة التي يقوم بها الفكر العربي عن الرسالة الحضارية والإنسانية، وفي هذه النقطة يجب علينا تجاوز الثنائيات التي من شأنها أن تأخذ طبيعة الصراع، فالفكر العربي ليس في حالة صراع مع الفكر الغربي، وإنما كلاهما يؤديان دورهما الحضاري والإنساني، ويساهمان في الفكر الإنساني بما فيه خير البشرية جمعاء.

أيضاً ضمن إطار العلاقة بين الفكر العربي والفكر الغربي، يتم الحديث في أغلب الأحيان عن الغزو الثقافي، ويرى الدكتور العوا أن هذا الذي يُسمّى غزواً لا يكون غزواً إلا بقبول المغزو ما يأتيه من الخارج، فلو لم يقبل الإنسان الفكرة لما دخلت دماغه، ويقبلها حين يكون مستعداً لها، وبالتالي فإن الأفكار التي تأتي من الخارج، وتأخذ صيغة الغزو، لن تلعب دورها الثقافي والأيديولوجي المطلوب منها إلا بوجود أرضية مناسبة لها، وتقبّل فكري وروحي.

على مستوى القيم يمكن الحديث عما يُسمّى تخلخل القيم بين ما هو موروث وما هو مستورد، وهذا الصراع حميد في بعض جوانبه، إلا أن الخطورة تحدث حين يغفل الفكر المتلقي عن حقيقة ما يستورده أو يُفرض عليه بوسائل الإعلام الأجنبية. هنا يحدد الدكتور العوا المعيار الذي نحتكم إليه في تقبّل القيم، فكل فكرة تُدْنينا من بلوغ الأهداف الإنسانية هي التي تستحق تقديرنا سواءً كانت موروثة أم مستوردة، فالغزو سيئ الدلالة والمرفوض يندرج على الأفكار والقيم التي لا تتفق مع قيمنا الحضارية والإنسانية والتاريخية، أما التقدم العلمي والاستفادة من آخر ما وصلت إليه التقنية والعلوم واستخدامه في مختلف نواحي الحياة، فهي أفكار مرحب بها وليست غازية.

----

المراجع:

[1] القيمة الأخلاقية، جامعة دمشق، 1960م.

[2] التجربة الفلسفية (جزآن)، جامعة دمشق، 1962م.

[3] معالم الكرامة في الفكر العربي، مطبعة الأمل، دمشق، 1969م.

[4] الأخلاق، جامعة دمشق، 1975م.

[5] العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس، دمشق، 1986م.

[6] المزاج الحضاري في الفكر العربي، دار شمأل، دمشق، 1992م.

[7] لقاء القيم في الفكر العربي، دار شمأل، دمشق، 1993م.

5