تطلق صفة الرواقي على الشخص الذي يمتاز بثلاثة أمور أخلاقية، تتمثل بالتحرر من الأهواء وعدم الخضوع للأفراح والأحزان والاستسلام لقانون القضاء. والحكيم الرواقي يصبر على أحداث الزمان ويرضى بما يجري عليه، ولا حيلة له فيه من العطاء أو الحرمان، وهذا شيء ليس من اليسير أن يتقبله كل إنسان.

الرواقية ليست مذهباً فلسفياً فحسب، إنما هي قبل كل شيء، أخلاق ودين. ولعل أظهر طابع يميز الرواقية هو نزعتها الإرادية التي جعلتها تطرح المثالية دون تردد أو إحجام، فالمُثل أو الكليات عندها ليست حقيقة في العيان، وليست موجودة خارج الأشياء كحالها عند أفلاطون، ولا هي موجودة في الأشياء كحالها عند أرسطو، إنما المثل والصور عند أصحاب الرواق مجردات ذهنية لا يقابلها شيء في عالم الأعيان أو العالم الواقعي.

والرواقية وإن كانت قد قامت على أرض يونانية، لا نستطيع اعتبارها من ثمار الفكر اليوناني وحده، والأرجح أن تكون فلسفتها ثمرة للاتصال الثقافي بين الشرق والغرب، فقد استمرت رسمياً خمسة قرون، وتُقسم إلى قديمة ووسطى وحديثة، فالقديمة في أثينا ويمثلها زينون وكليانتس وكريسيوس ومدتها من سنة 322 إلى 204 ق.م، والوسطى يمثلها تباثيوس وبوزيدينيوس ومدتها من القرن الثاني والأول ق.م، والحديثة في روما يمثلها سينيكا وأبيكتيتوس وماركوس أوريليوس، ومدتها من القرن الأول ق.م إلى الوقت الذي أُغلقت فيه المدارس الإغريقية عام 529م، ثم تسربت آراؤها إلى المسيحية واستمرت في التراث الغربي حتى الوقت الحاضر.[1]

أطلق معاصرو المدرسة الرواقية الأولى على زعمائها وتلاميذها اسم الرواقيين نسبة إلى الرواق الذي كانوا يلقون فيه دروسهم. وقد كان زينون مؤسس المدرسة قد وُلد في مدينة سيتيوم إحدى المدن الصغيرة في جزيرة قبرص، وكان أبوه تاجراً يذهب كثيراً إلى أثينا بحكم مهنته، وأخذ يحضر معه في كل رحلة إلى مدينة العلم رسائلَ تحوي بعض نظريات سقراط وتلاميذه، فيضعها بين يدي ابنه الناشئ فيلتهمها قراءة وفهماً واستذكاراً. وقد أيقظت هذه الرسائل الفلسفية في نفسه حب الاطلاع ونمّت عنده الشغف بالحكمة. وهناك روايات ثلاث عن رحلة زينون إلى أثينا وأسبابها، إحداها تتحدث عن عاصفة مرعبة أحاطت بسفن أبيه التاجر ففقد بسببها كل ثروته بعد أن هوت بما فيها إلى قاع البحر، وهكذا سنحت الفرصة لهذا الشاب المتعطش إلى العلم بانتجاع مدارس أثينا ليدرس فيها الفلسفة ويتخذها مهنة لمعاشه. والرواية الثانية تتحدث عن أن السبب في رحلته لم يكن لطلب القوت ولا الحاجة لاتخاذ الفلسفة مهنة للعيش، إنما وهو في أول شبابه طلب إلى أحد الكهنة العرافين أن يستشير الوحي فيما ينبغي أن يسلك من أنهاج الحياة، فأخبره أنه يجب عليه أن يسلك نهج البحوث مع الموتى، فأدرك زينون أن الوحي يأمره بالعكوف على مطالعة كتب القدماء والفلسفة، فصمم أن يقذف بنفسه في خضمها فارتحل إلى أثينا. أما الرواية الثالثة فتتلخص في أن هذا الشاب لكثرة ما طالعه من كتب القدماء ورسائلهم أُغرم بالفلسفة غراماً دفعه للارتحال إلى حاضرة الثقافة. ومهما يكن من أمر هذه الروايات الثلاث فإن الذي لا ريب فيه هو أن زينون قد وصل إلى أثينا حوالي سنة 314 ق.م وكان بسن 22 سنة.[2]

وفي أثينا ظلّ زينون هائماً على وجهه يتنقل بين معاهد الإغريق ودور العلم فيها زهاء عشرين سنة حتى أنشأ مدرسته في أحد الأروقة في نفس الوقت الذي نشأت فيه المدرستان البروقية والأبيقورية، وكانت مهمتها تنحصر في أن تحمل الدواء لنفس الداء المستعصي الذي كانت هاتان المدرستان المتعاصرتان تحاولان معالجته وهو التخلص من الشقاء والوصول إلى السعادة. وكان رجال المدرسة الرواقية مؤمنين بأن المدرسة الأولى قد فشلت في مهمتها، وأن الثانية ستفشل حتماً، وأن الحل الحاسم لهذه المشكلة والوسيلة الناجحة للخلاص من هذه الآلام هي متيسرة في مذهبهم وحده.

الأخلاق

ولم تعدل المدرسة الرواقية بالفلسفة عن عالميتها القديمة، فعرفتها بأنها علم الإلهيات والإنسانيات، وبهذا التعريف استطاعت أن تدخل في دائرة اختصاص الفلسفة كل معرفة بشرية من غير استثناء، لكن هذا التعميم لم يمنع الرواقيين من توجيه الفلسفة وجهة أخلاقية، وفي هذا اتفقوا مع سقراط، وإن كانوا يختلفون معه حين يقررون أن الحكمة هي فن تطبيق كل نافع في الحياة، وبهذه الواقعية الواضحة التي استحدثها الرواقيون في الفلسفة ظن البعض أنها نزلت بها في سموها إلى المستوى العامي، لكن في الحقيقة كل ما فعله الرواقيون هو أنهم أكثروا من تشبيه الفلسفة بالأشياء المادية ليقربوها من أذهان العامة.[3]

لقد أحس زينون كمعاصره أبيقور أنه من المحال أن يكون للإنسان مذهب في الأخلاق دون أن يستند على أساس من الطبيعة والميتافيزيقيا، إذ لا يستطيع أن يكون له قواعد للسلوك دون فكرة عامة عن الكون الذي يحيا فيه، لذلك كان زينون مضطراً أن يقدم جواباً عن تلك المشاكل الطبيعية والميتافيزيقية التي كانت تشغل الفكر الإغريقي.

وقد أسس الرواقيون مذهبهم في الطبيعة على الفلسفة الأيونية بالأخص فلسفة هيراقليطس، مع تكملتها بموقف أرسطو من العلم الطبيعي، وفي المنطق يلاحظ تأثير المنطق الأرسطي الواضح على المنطق الرواقي، أما الأخلاق فقد حذوا فيها حذو الكلبيين، وإن كانوا قد خففوا من غلواء تلك المدرسة، فأدخلوا على صلابتهم شيئاً من المرونة، كذلك استعارت الرواقية من مدرسة سقراط وأفلاطون فكرة الغائية والاعتقاد بالعناية الإلهية وبالقدر، ومن هذه العناصر المتفرقة أُسست الفلسفة الرواقية.

ويرى الرواقيون أن المنطق علم شامل لكل المباحث التي تتناول الكلام الداخلي في النفس والكلام الخارجي المنطوق، لهذا قسموه إلى قسمين، الأول الخطابة والثاني الجدل. وقد ميزوا في الجدل بين نظرية التعبير ونظرية المعبر عنه. وتضم نظرية التعبير دراسة قواعد اللغة. وقد ساهمت الرواقية في العصر السكندري والعصر الروماني مساهمة كبرى في تطوير تلك الدراسات. أما نظرية المعبر عنه، فإنها تقابل في جوهرها ما نسميه بالمنطق الصوري. كما أن الرواقية فلسفة تجريبية تفترض أن الجزيئات هي الحقائق الأساسية التي تقوم عليها المعرفة، والمعرفة لا بدّ أن تبدأ من الإدراك الحسي، أي إدراك هذه الجزيئات، فكل معرفة عندهم ترجع إلى الحس، وقد صرحوا بالمبدأ الحسي المشهور القائل بأن لا شيء في الذهن ما لم يكن قبل في الحس، وهم في هذا على وفاق مع معاصرهم أبيقور الذي وقف هنا في حين تابع زينون في السير. وقد كانوا بذلك المؤسسين الأوائل لفلسفة لوك الإنكليزي الحسية في القرن السابع الميلادي، فالمحسوسات أصل المعرفة، والحواس طريق وصول صورها إلى العقل، ثم إن العقل ينتزع من هذه المحسوسات الجزئية إدراكات كلية لا توجد إلا في عقولنا، وليس لها مدلول في خارج أذهاننا. والحقيقة هي تطابق بين صورة الشيء في أذهاننا وبين الشيء نفسه، ومقياس الحقيقة الذي يدلنا على أن هذا الإدراك مطابق للواقع، هو ذلك الشعور القوي الذي ينبعث من الأشياء الخارجية الحقيقية المدركة بالحواس، والشعور هو وحده لا الفكر مقياس الحقيقة في المعرفة الرواقية، لكن هذه المعرفة يخترقها العقل منذ بدايتها، وهي دائمة الاستعداد لقبول فعله وتنظيمه، وعلى أساس هذه النظرية في المعرفة أقام الرواقيون منطقاً تجريبياً. وكذلك قسم الرواقيون الأحكام إلى قسمين بسيطة ومركبة، واهتموا في ميدان القضايا المركبة بالشرطية أكبر اهتمام.[4]

وفعل العقل عند الرواقية يجب أن يُفهم بمعنى مادي أو روحي ممثلاً في المادة، مادام الجسم عندها هو وحده الموجود الجدير بالفعل والانفعال، وما دام العقل يفعل فهو جسم، والذي يقع عليه فعل العقل هو جسم أيضاً، ويسمى الأول بالعقل أو الفاعل أو المؤثر، والثاني بالمادة أو المنفعل المتأثر، والثاني عندهم دائماً مشتمل على الأول. وبناءً على هذا ليست المعرفة الكاملة هي الإحاطة بالمدركات عن طريق البصيرة الفطرية كما هو مذهب أفلاطون، ولا عن طريق الذهن كما هو رأي أرسطو، وإنما فيما نحصله من معلومات بواسطة حواسنا الظاهرة وأذهاننا في حالة استمرار الصلة بين الشيء المدرك والقوتين المدركتين (الحاسة والذهن). والعبرة في المعرفة ليست بالأشياء المعروفة بل بالحكم على هذه الأشياء، وهذا الحكم يختلف صحة وبطلاناً باختلاف قرب هذه الصور من الحقيقة وبعدها عنها.

وكما بسطت الرواقية المنطق بسطت الطبيعة، فقالت بأن اللامادية المحضة لا وجود لها، وأن الكائن هو وحده الموجود، فالإله والنفس وصور الأجسام وخواصها وصفاتها وألوانها وطعومها وروائحها ونبراتها كلها مادية ممتزجة بالمادة، وكذلك الخير والشر والفضيلة والرذيلة والألم والانفعال كلها كائنات مادية، ولولا ماديتها لما تحقق تأثيرها العملي في الكائنات. كذلك صرحوا بأن الأيام والأسابيع والشهور والفصول والسنين كلها كائنات مادية لتحقيق تأثيرها الواقعي في الموجودات حيها وجامدها.

وعندهم لا يوجد للكون عنصر أزلي وأبدي إلا النار، فهي العنصر الأول اللامادي الذي عنه انبثقت العناصر الثلاثة الأخرى الهواء والماء والتراب، وهي مادية وحادثة وقابلة للفناء. والنار الجزئية المنبعثة من الإله أو من النار الكلية والراجعة إليها هي روح الوجود كله، أما الوصول إلى الكمال فلا يتحقق إلا بتطهير الأجسام أو تنقية العنصرين السلبيين تبعاً لقانون طبيعي ضروري يستسيغه العقل المدبر الذي لا يقع أي شيء في الكون بدون تدبيره.[5]

وحين دخلت الفلسفة الرواقية بلاد الرومان، لم تقف عند علم الطبيعة إلا وقفات قصيرة، موجهة أقصى عنايتها إلى مبادئ الأخلاق وتطبيقاتها، ولم تقتصر الفلسفة الرواقية على اتخاذ مذهب الأخلاق القديم كما كان، بل أدخلت عليه فناً جديداً لا يخلو من مرونة وإصابة في تحليل ما في طبيعة الإنسان من ضعف وعظمة. وبعد أن كان الرواقي في أثينا معلماً أو مدرساً، أصبح في روما دليلاً ومرشداً، ومنهم سينيكا الذي لم يقبل من التلاميذ والمريدين إلا فئة مختارة يقدم لهم النصح ويسدي إليهم إرشاده. ولم يكن أساتذة الأخلاق في ذلك العهد مندوبين عن المدينة ولا ممثلين للحكومة، بل كانت مهمتهم شخصية بحتة.

ولقد طبعت روما العالم المتحدث بطابع لم تمحُ الأيام أثره، ولقد كانت الرواقية إلى حد كبير منهلاً استقت منه روما ما تهيّأ لها به الاضطلاع بتلك الرسالة الجليلة. أما في العصور الحديثة فقد تميزت بنزوعها إلى العمل ودعوتها إلى الهداية، وبعدها عن الإذعان للقضاء والاستسلام للمقادير، ومناداتها بوجوب الحياة حياة مستقلة تشتق أحكامها قبل كل شيء من الطبيعة والعقل لا من الدين. وفي القرن السابع عشر ذاعت الرواقية عن طريق المراسلات والمحادثات في المجالس والمجتمعات، وقد سارت مبادئ المذهب الرواقي على صفوة الأوساط الراقية، وكان للحزب الرواقي في كل بلد خصائصه القومية، حيث أصبحت في عهد بلزاك وكورني وديكارت مدرسة النفوس الكبيرة كما وصفها بعض الكتّاب.

----

المراجع:

[1] الفلسفة الإغريقية ومدارسها من طاليس إلى أبروكلوس، محمد حسن مهدي بخيت، عالم الكتب الحديث 2015، ص 317- 318.

[2] زينون وما حققته الفلسفة اليونانية، كامل محمد عويضة، دار الكتب العلمية 1994، ص 71- 72.

[3] المرجع السابق، ص 74- 70- 77.

[4] الفلسفة الإغريقية ومدارسها من طاليس إلى أبروقلوس، مرجع سابق، ص 321- 322- 324- 325- 326.

[5] زينون وما حققته الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 81- 85- 87.

[6] الفلسفة الرواقية، عثمان أمين، مطبعة التأليف للترجمة والنشر، ص 176- 177- 179- 253- 254.