خلال عصر النهضة أجرت البشرية الأوروبية تحولاً ثورياً، وكان المثل المثير لإعجابها هو بشرية العصر القديم؛ حيث كانت الفلسفة النظرية تحتل المكانة الأولى، وكان إنسان العصر القديم حسب المثل الموجه للنهضة، هو الإنسان الذي يشكل ذاته بتبصر على أساس العقل الحر، وطبقاً لهذا المثل يجب أن تنشأ مرة أخرى فلسفة نظرية لا يتم تبنيها تقليدياً بكيفية عمياء، بل يجب أن تنشأ على أساس البحث والنقد الشخصيين.

وفكرة الفلسفة هذه احتفظت صورياً في القرون الأولى للعصر الحديث بمعنى العلم الشامل الكلي، فالعلوم التي يمكن تأسيسها في يوم ما، أو تلك التي تباشر عملها، ليست سوى فروع مستقلة للفلسفة الواحدة، وتسعى هذه الفلسفة الجديدة إلى أن تحيط بكيفية علمية بكل الأسئلة المعقولة عموماً في وحدة نسق نظري في منهجية بداهية بكيفية قطعية، وفي تقدم للبحث لامتناه لكن منظم عقلياً.

في بدايات العصر الحديث ابتدأ الغزو والاكتشاف الحقيقي للآفاق الرياضية اللامتناهية، وهكذا نشأت بدايات للجبر ولرياضيات المقادير المتصلة وللهندسة التحليلية، والأمر لم يتوقف عند حدود الرياضيات الجديدة، إذ سرعان ما امتدت عقلانيتها إلى علم الطبيعة، وابتكرت له فكرة جديدة هي (علم الطبيعة الرياضي) الغاليلي، فلقد كان غاليليه كمكتشف متجهاً مباشرة نحو تحقيق فكرته في تطوير منهاج لقياس المعطيات المباشرة للتجربة العامة، وقد أظهرت التجربة الفعلية ما يقتضيه استباقه الافتراضي في كل وضعية، لقد وجد بالفعل روابط سببية يمكن التعبير عنها رياضياً في (صيغ). وعلم الطبيعة الغاليلية لم ينشأ بفضل التخصص، بل إن العلوم الجديدة اللاحقة هي التي جزأت فكرة الفلسفة العقلية التي حفزها علم الطبيعة الجديد واستمدت منها حمية تقدمها وغزوها لمجالات جديدة.

ثم وبمجرد أن أعلن ديكارت فكرة الفلسفة العقلية والفصل بين الطبيعة والروح، ظهرت معه ومع معاصره هوبز سيكولوجيا جديدة من أسلوب غريب تماماً عن الأزمنة السابقة، تمت صياغتها عينياً كأنثروبولوجيا سيكوفيزيائية في روح عقلانية. ولقد اعتبر ازدهار العلوم البيوفيزيائية الوصفية خاصة بمقتضى استثمارها لمعارف فيزيائية كنجاح لمنهج علم الطبيعة المؤول دائماً تأويلاً فيزيائياً. أما فيما يتعلق بما هو نفسي فإن نموذجية التصور الفيزيائي للطبيعة ومنهج علم الطبيعة قد أدت منذ هوبز إلى اعتبار أن النفس لها كيفية مشابهة مبدئياً لكيفية وجود الطبيعة، وأن السيكولوجيا تعرف ارتقاء نظرياً من الوصف إلى التفسير النظري الأخير مشابهاً لذلك الذي يوجد في البيوفيزياء، وهذا الاضفاء لصفات الطبيعة على ما هو نفسي سينتقل عبر جون لوك إلى العصر الحديث كله حتى يومنا هذا.

إن تاريخ الفلسفة كله منذ ظهور نظرية المعرفة والمحاولات الجدية لفلسفة ترنسندنتالية هو تاريخ التوترات الشديدة بين الفلسفة ذات النزعة الموضوعية والفلسفة الترنسندنتالية، تاريخ المحاولات الدائمة للمحافظة على النزعة الموضوعية وبنائها في شكل جديد، ومن جهة أخرى محاولات النزعة الترنسندنتالية للتغلب على الصعوبات التي ترتبط بفكرة الذاتية الترنسندنتالية والمنهج الذي تقتضيه، وإن إيضاح أصل هذا الانشطار الداخلي للتطور الفلسفي وتحليل الحوافز الأخيرة لهذا التحول الجذري لفكرة الفلسفة له أهمية كبرى، إنه يسمح لنا برؤية المعنى الأعمق الذي يوحد كل الصيرورة التاريخية للفلسفة في العصر الحديث، هو انتظام باتجاه شكل أخير للفلسفة الترنسندنتالية كفينومينولوجيا، يكمن فيه الشكل الأخير للسيكولوجيا الذي يقتلع من الجذور المعنى الطبيعي النزعة للسيكولوجيا الحديثة.

والانتصارات المتلاحقة للعلوم الجديدة والاندفاع المتأجج نحو التكوين الثقافي والحماس للقيام بإصلاح فلسفي لنظام التربية ولكل الحياة الاجتماعية والسياسية، جعل من عصر التنوير (العصر الفلسفي) جديراً بالإجلال، لكن البشرية الجديدة التي تفعمها هذه الروح الفلسفية لم تبق ثابتة على موقفها، بل فقدت إيمانها الدافع في الفلسفة الشاملة التي اعتقدت أنها حققتها بكيفية أكيدة في أجزاء أساسية، فالعلوم الطبيعية وتقدمها الدائم في تعاون وانسجام منهجها القابل للتعلم ونجاحاتها التقنية جعلها وبكيفية مفهومة نموذجاً للمنهج العلمي عموماً، لكن محاولات محاكاة هذا المنهج فعلياً في ميادين أخرى كالميتافيزيقا والأخلاق وغيرهما لم تعرف النجاح. وهذا ما فرض من جديد القيام بتأملات منهجية نقدية امتدت إلى نقد منهج علماء الطبيعة الذي عرف نجاحاً وازدهاراً كبيراً بهدف فهم إنجازاتهم.

إذاً إن أزمة كل الثقافة الحديثة المستندة إلى استقلالية العقل العلمي هي في العمق أزمة الفلسفة وحدها، ولا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلا بتعميق الفهم الذاتي للإنسان، لقد عبرت الفلسفة الترنسندنتالية التأملية عن ذاتها بإلحاح كمعرفة غامضة مليئة بالتخمين بعمق لحياة الذات، وقد فشلت بسبب غياب منهج تحليلي، ثم إن السيكولوجيا من جهة أخرى لم تبلغ ثيمتها طالما بقيت تحت نفوذ الموقف الموضوعي النزعة وفي الأسر المنهجي لمَثل علم الطبيعة، وقد تعلق الأمر قبل كل شيء بإثبات التشابك الغريب بين الفشل النهائي للفلسفة الترنسندنتالية وفشل السيكولوجيا لأنهما كانتا منفصلتين. ومع هذه البداهة طُرحت من تلقاء ذاتها مهمة تحرير السيكولوجيا من نفوذ النزعة الموضوعية الطبيعية، وبدء الفلسفة الترنسندنتالية في المنهج التحليلي للتساؤل والتأويل العينيين للذاتية كما يجب إنشاؤها انطلاقاً من سيكولوجيا تم إصلاحها، وانطلاقاً من خلفية الكفاح الذي يخترق العصر الحديث بأكمله من أجل الفهم الذاتي للإنسان في صورة الفلسفة الترنسندنتالية والسيكولوجيا ثم رسم فكرة الفينومينولوجيا، فالفلسفة الفينومينولوجية تجعل من عمق الحياة الترنسندنتالية للذاتية التي يتم فيها بناء كل وجود موضوعي بوصفه معنى للوجود ثيمة لتأويل قصدي تحليلي، وتوضح أيضاً كيف يحصل ترنسندنتالياً الوجود الموضوعي للذات في العالم، وبذلك تدرك طبيعة الإنسان الثنائية. وانطلاقاً من معرفة ماهية الإنسان مزدوجة الوجه ينبعث ليس فقط وعي نظري بالذات جديد أساساً، بل أيضاً شعور جديد بالحياة.

----

الكتاب: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية

الكاتب: إدموند هوسرل

ترجمة: الدكتور إسماعيل المصدق

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة، 2008.