هو أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي، لم يذكر مؤرخو العرب تاريخ ميلاده ووفاته بدقة، لكنهم ذهبوا إلى أنه من أهل القرن الثالث الهجري. ويعد الكندي أول فيلسوف عربي.
احتذى الكندي في تأليفه حذو أرسطو، وفسّر من كتب الفلسفة الكثير، ولخّص المستصعب وبسّطه. وتكاد تشمل مؤلفاته سائر العلوم، فقد دوّن في الفلسفة والسياسة والأخلاق، الأرثماطيقي وعلم الكريات، والموسيقا والفلك والجغرافية والهندسة، ونظام الكون والتنجيم والطب والنفسانيات، وعلم المعادن والكيمياء والطبيعة وغير ذلك، وليس بين مؤلفاته شيء في الدين[1].
ولم تصل إلينا كتب الكندي جميعها لنتبيّن رأيه في الدين ورجاله، لكن في كتابه إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى إشارة طويلة نستخلص ثلاثة أمور، أولها: أن رجال الدين يسيئون تأويل الفلسفة، والثاني: أنهم يتجرون بالدين، والثالث: التوفيق بين الفلسفة والدين.
والواقع فإن الكندي كان يحاول أن يدفع عن نفسه هجوم رجال الدين وتهمة الإلحاد، وهي تهمة إن ثبتت كان مصير صاحبها الإعدام. ولهذا كانت حاجته شديدة إلى الدفاع عن الفلسفة وإثبات عدم مخالفتها الدين، فكان أول من تكلّم من فلاسفة الإسلام في التوفيق بين الحكمة والشريعة.
وكما لم تكن علاقة الكندي حسنة برجال الدين، كذلك كانت بالنسبة إلى النقلة والمهندسين والمنجمين، ومثلهم الأدباء حتى أخرجوه من ميدان الأدب. وقد شاع عنه ضعف أسلوبه والنزول عن مستوى الأدباء، لكن المحدثين آثروا أن يتنحوا عن إبداء الرأي في أسلوبه نظراً لضياع كتبه. وبعد العثور على بعض مخطوطاته حكموا على أسلوبه من واقع هذه النصوص، فذهبوا إلى أنه أسلوب لم يكن في جملته بليغاً، على أنه في بعض الأحيان قد نقع على عبارات يبدو فيها الترسل فيرتفع إلى مقام البلغاء. لكن الغالب على أسلوب الكندي الغموض والتواء التعبير ومجافاة روح العربية. ومرجع هذا كله يعود إلى طول النظر في الكتب اليونانية والسريانية مع صعوبة النقل، ووعورة الموضوعات، واصطناع الألفاظ الجديدة للتعبير عن نظائرها في تلك اللغات[2].
ولم يشتهر الكندي بأنه من أمهر النقلة فحسب، بل كان طبيباً كذلك، وله مؤلفات في الطب والعلاج، لكن شهرته التي فاقت صفاته الأخرى ترجع إلى علم الفلك. ويبدو أن ظهور أمثال أبي معشر والبتاني وغيرهما من علماء الفلك في الإسلام، حجب شهرة الكندي. غير أن شهرته في العصر الوسيط كانت عظيمة، وقد اعتبره "دي بور" واحداً من ثمانية هم أئمة العلوم الفلكية.
وقد عُرف الكندي في وقته بفيلسوف الإسلام وفيلسوف العرب، حتى إذا ظهر الفارابي وأسموه المعلم الثاني، حجب شهرة الكندي. والحقيقة هنا أن إغفاله صناعة التحليل مع غموض كتبه في المنطق، وبعدها عن متناول الأيدي، هو السبب في انصراف المتأخرين في أخذ الفلسفة عنه. أما السبب الثاني فيعود إلى ضعف أسلوبه وغموض عباراته، وفساد التراكيب العربية وقربها من العجمية. كما كان الكندي مترجماً أكثر منه فيلسوفاً، ومن أسباب حجب شهرته كذلك انصرافه إلى علوم الفلك والهندسة والاشتهار بها، غير أن ظهور التباني في علم الهيئة، وابن الهيثم في الضوء، حجبوا شهرة الكندي أيضاً، كما حجب الفارابي وابن سينا شهرته في الفلسفة[3].
وللكندي رسالة خاصة بالتعريفات، وهي (رسالة في حدود الأشياء ورسومها)، وتشمل نحو مئة تعريف لمفاهيم من علوم المنطق والرياضيات والطبيعة وما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق وغيرها، وأهمها التعريفات الفلسفية الخالصة، وهي تعريفات قصيرة في الغالب لكنها دقيقة، تدل على الفهم التام لموضوع التعريف. وعلى الأرجح فإن هذه التعريفات هي أول قاموس وصل إلينا للمصطلحات الفلسفية عند العرب.
ومما لا شك فيه أنه كان راسخ القدم في علم اللغة، فنجد أسلوبه قوياً من حيث استعمال الصيغ الاشتقاقية اللغوية التي يدهش لها القارئ الحديث، كما أن أسلوبه طويل النفس، فيه بناء للفكرة والاستدلال، فقد تبلغ الجملة الواحدة أسطراً عديدة، ولا يفهمها إلا من كانت له دربة على متابعة سير الاستدلال المنطقي الفلسفي.
أما منهجه فيقوم على تحديد المفهومات بألفاظها الدالة عليها تحديداً دقيقاً، حيث لا يستعمل ألفاظاً لا معنى لها، لأن ما لا معنى له فلا مطلوب فيه. كذلك تغلب عليه الطريقة الاستنباطية، حتى إنه ليخيل إلى القارئ أنه بعيد عن الواقع المتعين، فيستعمل المفهومات والقضايا في عالم فكري خاص.
والكندي أعظم مفكري عصره المتفلسفين وأكبرهم تنوعاً في المعارف، وبيان مصادر فلسفته ومادتها كفيل بإلقاء النور على نشأة التفلسف الإسلامي من ناحيته الكلامية والفلسفية الخالصة[4].
----
المراجع:
[1] تاريخ فلاسفة الإسلام، محمد لطفي جمعة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 21- 23.
[2] كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، تحقيق: أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية، ص 22- 23- 24- 33- 34- 35- 36.
[3] المرجع السابق، ص 43- 47- 48- 49.
[4] رسائل الكندي الفلسفية ج1، تحقيق: محمد عبد الهادي أبو وريدة، دار الفكر العربي بمصر، ص 19- 23- 26- 33.