كان على عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير أن يتقمص ليس فقط دور العالم المنظر للمبادئ العامة في تحليل الظاهرة اللغوية، إنما أيضاً دور الفيلسوف المتأمل في طبيعة موضوع اللسانيات وحدود البحث فيه، والمنهج الملائم لمعالجته، وبذلك يكون قد بدأ تأسيس علم اللسانيات من حيث ينبغي أن يبدأ التأسيس النظري والمنهجي لأي علم محتمل.

على العكس من معاصريه وسابقيه، يرى سوسير أنه ليس من السهل أن تكون لدينا فكرة واضحة ومحددة عن اللغة، وليست اللسانيات من حيث المبدأ أو في منهجيتها بالأمر البسيط، بل تتميز بالاشتغال على مواد ذات سمات نوعية تنفرد بها. أما اللسان فله جوانب متباينة وأحياناً متناقضة يصعب معها تصنيفه ضمن الموضوعات البشرية الأخرى. وليس شيء مماثل للسان البشري، لأنه يقدم مفارقات مثيرة للتساؤل للذين يتوخون دراسته من هذا الجانب أو ذاك.

ويتساءل سوسير: هل تجد اللسانيات أمامها كموضوع أولي ومباشر موضوعاً معيناً يكون عبارة عن مجموعة من الأشياء المحسوسة مثلما هو الحال في الفيزياء والكيمياء وعلم النبات والفلك؟ والجواب بالتأكيد لا. فصعوبة موضوع اللسانيات تكمن في طبيعته المعقدة، والطريقة التي يراوغ بها على الدوام، إنه موضوع ملموس من دون أن يكون فيزيائياً، ويستلزم كذلك الفكر والمجتمع.

وعند استخدام لفظ "ملموس"، فإننا قد نعتقد أن الأمر يتعلق بكائنات لغوية مادية محسوسة كالأصوات، إلا أن سوسير يؤكد عكس هذا، حيث إن الوحدات الملموسة لا تظهر من تلقاء نفسها، ولا تقدم نفسها بنفسها، كما أن الاعتقاد بأن الأشياء تكون معطاة طبيعياً في اللغة هو وهم كبير، وقد تمثلت جهود سوسير في تأكيده القوي على أن موضوع اللسانيات ليس هو موضوع العلوم الفيزيائية أو الطبيعية، وبالتالي فإن مشاكلها ليست هي مشاكل اللسانيات التي ينبغي أن تحدد موضوعها الخاص بها وفق المفاهيم الإجرائية التي تتوفر عليها.

وجهة النظر

وفي علم اللسانيات من الأجدى البدء بالحديث عن وجهة النظر بدلاً من الحديث مباشرة عن الموضوع باعتباره موضوعاً غير محدد، وحاجة اللساني إلى وجهة نظر لا يضاهيها شيء في الأهمية سوى علمية اللسانيات نفسها. فاللسانيات أولاً وأخيراً هي وجهة النظر، ووجهة النظر وحدها هي التي تخلق الموضوع. كذلك وجهة النظر لا ترتبط بمنظور فلسفي في التعامل مع الأشياء أو التصورات بقدر ما هي مسألة تُعد مدخلاً نظرياً ومنهجياً تفرضه طبيعة الموضوع نفسه لأنه مرتبط بالنشاط اللغوي.

كما أنه في اللسانيات لا يكفي أن نقول إن الموضوع اللغوي قابل للدراسة من وجهات نظر متعددة، ذلك لسبب بسيط يتمثل بأنه لا يوجد موضوع يقدم دون وجهة نظر محددة تسلط عليه وتجعله قابلاً لأن يكون موضوعاً، بل إن الموضوع لا يقبل التحليل قبل أن يكون له وجود مستقل، كما لا يمكن في اللسانيات أن نتحدث عن موضوع يكون مستقلاً عن وجهة النظر التي تحدده أو تبحث فيه دون وجهة النظر التي تشكله، وسواء أكانت وجهة النظر صحيحة أم خاطئة، فليس بين أيدينا موضوع معطى في ذاته وموجود بذاته دون وجهة نظر.

ولقد احتل موضوع وجهة النظر مكانة مميزة ضمن تصورات سوسير، ويتأكد اهتمامه بها من خلال إشارته الواضحة في الرسالة التي بعث بها إلى زميله أنطوان مييه سنة 1894 قائلاً: "كنت دائماً منشغلاً بتصنيف الأحداث اللغوية المنطقي، وتصنيف وجهات النظر التي تعالج بها الأحداث، لنُظهر للساني ما الذي يتوجب عليه القيام به".

المادة والموضوع

ويبدأ التأسيس الفعلي للسانيات كعلم قائم بذاته بتحديد الموضوع، وهنا يميز سوسير في سياق التوضيح النظري والمنهجي لأسس اللسانيات بين مفهومين أساسيين غالباً ما يتم الخلط بينهما وهما (المادة والموضوع)، حيث تشمل مادة الدراسة اللغوية العلمية جميع أنواع التنوعات التي تقدمها لنا اللغة البشرية، في حين يشكل موضوع اللسانيات جزءاً محدداً من المادة وليس المادة اللغوية برمتها، إنه (اللسان).

وبحسب سوسير فإنه بتحديد مادة اللسانيات وموضوعها ومهامه يمكننا أن ندرك لماذا لم تكن قيمة اللسانيات واضحة في عصور سابقة، وبعدم إدراجها ضمن دائرة الدراسات التي تستحق اسم (الثقافة العامة).

لسانيات اللسان

استطاع سوسير أن يجعل من ثنائية (لسان / كلام) دعامة تصورية ومنهجية أقام عليها صرح اللسانيات التي دعا إليها، وبالتالي كان لهذه الثنائية أهمية بالغة في قيام اللسانيات وتثبيت وضعها الأبستيمولوجي ضمن العلوم الإنسانية.

وتتخذ لسانيات سوسير من اللسان وحده موضوعاً وحيداً لها، ويتجلى هذا من العبارة الشهيرة التي ختم بها كتاب "دروس في اللسانيات العامة": "إن موضوع اللسانيات الوحيد والحقيقي هو اللسان بحد ذاته ولأجل ذاته". وقد اكتسبت فكرته في هذا القول قيمة أبستيمولوجية متميزة وحاسمة في تاريخ الفكر اللغوي الحديث، كونها حددت الإطار النظري والمنهجي الخاص باللسانيات تحديداً واضحاً، سمح لها بالاستقلال عن غيرها من العلوم الإنسانية والدراسات اللغوية.

العلامة اللغوية واللسان

لقد ساد الدراسات اللغوية المتعلقة بالعلامة حتى العصر الحديث تصور منطقي فلسفي، ترجع أصوله الأولى إلى أرسطو، وتبناه كثير من فلاسفة ولغويي القرون الوسطى وما بعدها، ومؤدى هذا التصور أن اللسان إذا ما تم ردّه إلى سماته الجوهرية ليست إلا قائمة من الأسماء التي تقابل أشياء العالم الخارجي، أو تصورات عن الأشياء المادية أو المجردة. لكن سوسير يعتبر هذا التصور بسيطاً لا يجسد طبيعة اللسان الحقيقية، وحقيقة العلامة اللغوية حسب سوسير بأنها لا تقرن لفظاً أو اسماً أو كلمة بشيء، بل تربط تصوراً بصورة سمعية. أي أن العلامة صورة سمعية تحمل تصوراً، وتفادياً للبس الذي يصاحب التسميات المتداولة عادة بشأن العلامة اللغوية وأطرافها، فقد اقترح سوسير استبدال المصطلحات القديمة بأخرى أكثر وضوحاً ودقة للتعبير عن تصوره الجديد عن العلامة اللغوية وطرفيها، فعوض مصطلحي (الصورة السمعية) و(التصور) تباعاً بـ (الدال) و(المدلول)، مع التنبيه إلى أننا برغم حديثنا عن الدال والمدلول كما لو كانا عنصرين منفصلين، فإنهما لا يوجدان إلا بوصفهما مكونين للعلامة.

----

الكتاب: اللغة واللسان والعلامة عند سوسير في ضوء المصادر والأصول

الكاتب: د. مصطفى غلفان

الناشر: دار الكتب الجديدة المتحدة، 2017.